عمر بنجلون.. أيقونة اليسار التقدمي ولغز الاغتيال
ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة العاشرة: عمر بنجلون.. أيقونة اليسار التقدمي ولغز الاغتيال
عندما يجتمع حضور الأبعاد النقابية والسياسية والفكرية في شخص واحد، فلابد أن الحديث هنا عن زعيم من طين خاصة، وعندما تلتقي تلك الأبعاد مع المهنية في التدبير والمحاماة والصحافة، فلابد أن الوصف يتعلق بقائد وشخصية ربما لن تتكرر في تاريخ المغرب.
إن الحديث عن تلك الصفات مجتمعة يقود دائما إلى استحضار شخصية عمر بنجلون، أو الشهيد عمر كما يناديه رفاقه، وهي الشخصية التي تُخفي من ورائها قدرا غير يسير من الألغاز، وربما أعقدها هو لغز الاغتيال الذي تعرض له عمر، والذي لم يكن إلا نقطة نهاية في حكاية رجل عاش محنة السجون والتعذيب والحكم بالإعدام ومحاولة الاغتيال قبلها.
نهاية محيّرة ومليئة بالألغاز، لابد أن بدايتها كانت متميزة، وتطورها كان مليئا بالأحداث في حياة إنسان قاده وعيه ونضاله من أجل شعبه وأفكاره، إلى عيش حياة حافلة بالإنجازات، وإن كان وجه العملة الآخر يختزل حياة قاسية، لم تثني مطبّاتها الكثيرة عمر بنجلون عن مواصلة طريقها إلى أن سقط شهيدا وشاهدا على فترة تاريخية مظلمة من تاريخ المغرب المعاصر.
عمر بنجلون كان عضوا في المكتب السياسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومحاميا بارزا في أكثر الملفات السياسية سخونة في عهده وما أكثرها، كما كان مديرا لجريدة المحرر وكاتبا لافتتاحياتها المثيرة للجدل، المدافعة عن الخيارات الاشتراكية والتي تنبذ “الطبقية” والظلم، كما كتب عمر أكثر وثائق الحزب أهمية عبر تاريخه والعديد من البيانات السياسية التي كان ينفث فيها من روحه الشجاعة والإقدام، إذ إنه مدرسة أصيلة في الخطاب الاتحادي وقلم لا يُعلى عليه، بشهادة رفاقه وأعدائه.
أين ومتى بدأت القصة؟
بقرية اسمها بركم بعين بني مطهر نواحي جرادة، على مقربة من مدينة وجدة، وبتاريخ الـ 26 من نونبر سنة 1936، ازداد عمر بنجلون من أب اسمه محمد وهو عامل، وأم اسمها للا أمينة وهي امرأة كان قدرها أن تنجب المناضلين ومن بين بينهم عمر وأحمد.
في المدينة نفسها، سيتلقى عمر تعليمه الابتدائي والإعدادي، ثم ستقوده رحلة الدراسة إلى مدينة وجدة، لإكمال دراسته الثانوية، ثم بعدها مباشرة إلى مدينة الرباط للدراسة بكلية الحقوق، لتقوده رحلة العلم كذلك إلى باريس عاصمة الأنوار سنة 1957، ليتلقى تكوينا مزدوجا في كل من الدراسات القانونية، وكذلك في المدرسة العليا للبريد والمواصلات.
تخرج عمر سنة 1960 من المدرسة المذكورة، مع نيله شهادة عليا في القانون العام، وعند عودته إلى المغرب في يونيو من السنة ذاتها، سيشغل بنجلون منصب مدير إقليمي للبريد بالنيابة في مدينة الدار البيضاء، ثم مديرا إقليميا بمدينة الرباط سنة 1962.
بداية المنعطف إلى اليسار..
شكّل انتقال عمر بنجلون من جرادة إلى مدينة وجدة، نقطة محورية في حياته، وهناك وكغيره من رافضي الاستعمار سيلتحق عمر بالشبيبة المدرسية لما عرف بحزب الاستقلال، وعند التحاقه بالرباط لإكمال دراسته الجامعية استمر في النضال كذلك، لكن بسفره لباريس سيسطع نجم عمر أكثر، وهي الفترة التي تزامنت مع تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إذ سيصبح رئيسا لجمعية الطلبة المسلمين لشمال أفريقيا ما بين سنوات 1959 و1960 من القرن الماضي.
عند عودته إلى المغرب، وإلى جانب حياته المهنية، سينخرط عمر أكثر في العمل إلى جانب رفاقه في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث احتل مكانة كبيرة في نقابة الاتحاد المغربي للشغل قطاع البريد والمواصلات، وسيجد نفسه في صراع مع الدولة ثم مع قيادة النقابة.
وفي سنة 1962 أصبح عضوا في اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في بداية السبعينات عمل إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد في التحضير للمحاكمات السياسية الكبرى، وسيتدرج في المراتب إلى أن انتخب عضوا للمكتب السياسي في الحزب سنة 1975، وهي السنة الأخيرة في حياته.
عندما يصير التأريخ بالاعتقال..
حياة عمر كانت دائما على صفيح ساخن، إذ عاش اعتقالات وتعذيب وحكم الإعدام وصولا إلى اغتياله، ففي سنة 1960 سيتعرض عمر للاختطاف بسبب الدينامية التي كان يشتغل بها في النقابة، وفي يناير 1963 وعندما انتخب عمر مندوبا للمؤتمر الثالث للاتحاد المغربي للشغل، سيختطف من باب مقر المؤتمر وسيعذب يوما كاملا داخل قبو إلى جانب أعضاء آخرين من جماعة البريد.
شهر ماي من سنة 1963 سيشارك في الحملة الانتخابية التشريعية، في كل من الدار البيضاء ووجدة، وفي 16 يوليوز من السنة نفسها، سيتم اعتقاله في اجتماع اللجنة المركزية بالدار البيضاء، بتهمة التحضير لمؤامرة ضد النظام، ليصدر في حقه بعد سلسلة من الجلسات الحكم بالإعدام في مارس 1964 بتهمة إدخال الأسلحة إلى المغرب من الجزائر، وبعد مفاوضات بين الاتحاد والملك الحسن الثاني سيتم إطلاق سراحه إثر العفو يوم 14 أبريل 1965.
لم يمضي بعد ذلك الكثير من الوقت حتى أعيد اعتقال عمر بنجلون مرة أخرى يوم 16 مارس 1966 ليسجن لمدة سنة ونصف، إلى أن أطلق سراحه يوم 21 شتنبر 1967. عاد إلى نشاطه السياسي بعدها خصوصا في الدفاع عن المعتقلين، ومن بينهم الذين حوكموا في محاكمة مراكش 1971، ومن بينهم أخوه الأصغر أحمد بنجلون..
لغز الاغتيال..
منذ يناير 1973 بدأ الموت يبحث عن عمر، إذ سيتوصل بطرد ملغوم في ليلة عيد الأضحى وكان الهدف اغتياله، إلا أن خبرته في مجال البريد مكنته من النجاة، ومن الصدف أن ذلك اليوم تزامن مع إعدام الضباط المشاركين في محاولة الانقلاب العسكري الثاني، ولأن تلك السنة ستشهد العديد من الأحداث المسلحة وعلى رأسها أحداث 3 مارس التي قادها التنظيم السري الموازي للاتحاد، اعتقل عمر بنجلون مرة أخرى سنة 1973.
مباشرة بعد إطلاق سراحه، وفي نونبر من سنة 1974 سيتسلم إدارة جريدة المحرر، وسيشرع في كتابة افتتاحياتها الصاخبة، والتي كانت سببا في مراكمته أعداء جدد، وهذه المرة من تيار مازال في طور الظهور برعاية من الدولة التي أرادت أن توقف به المد اليساري.
وبمجرد التحاقه بالمكتب السياسي سنة 1975، نظمت في حقه عملية اغتيال أمام بيته يوم 18 ديسمبر 1975، نفذها باستعمال سلاح أبيض، عنصران ينتميان لما كان يعرف آنذاك بالشبيبة الإسلامية، والذين ألقي عليهم القبض من طرف السكان، وفي حوار لواحد منهم نفى علاقته بالتنظيم الإسلامي وقال إن اللقاء كان من أجل “نصيحة” عمر لكنه تحول إلى شجار نتج عنه الحدث، عندما أخبرهم عمر بأن ليس لهما الحق في التحدث باسم الإسلام.
سيلتحق عمر بمن رحلوا قبله وأهمهم المهدي بن بركة، لكن جريمة اغتياله ظلت لغزا محيرا، إذ إن رفاقه ظلوا يرددون بأن هؤلاء الذين نفذوها ليسوا إلا موجهين من أيادي خفية، وهي الأيادي التي مازالت مجهولة لحدود اللحظة.