فتوى أجازت بيع الأبناء حينما قتل الطاعون نصف المغرب
المغاربة والعرب في مواجهة أوبئة حصدت الآلاف
اجتاحت أوبئة وأمراض فتاكة بلدانا كثيرة أدخلتها في أزمات حقيقية. وكغيرهم عاش المغاربة العرب، فترات حالكة على مدى حقب تاريخية مختلفة. وفي تعاملهم معها لعبوا كل أوراقهم؛ بحثوا في الطب، وطبّقوا الحجر الصحي لحماية أنفسهم، وتمسكوا بالمعتقدات الدينية وتقاليدهم الشعبية في مواجهتهم الأوبئة والأزمات، إلا أنها أسقطت منهم المئات يوميا وأذاقتهم العذاب؛ وقلبت موازين حياتهم، وفتحت الطريق أمامهم على مصراعيه لانتشار الفوضى والسيبة والجوع والسرقة…
صفحات من ماضي الأجداد دوّنها كُتاب التاريخ لرسم صورة بأبعاد واضحة عن صراعنا مع الأزمات والأوبئة. وباختلاف العصور والأمكنة، تكالبت في أحيان كثيرة الظروف الطبيعية والسياسية لتعمق جراح جسد المغاربة والعرب الذي ظل ينخره الوباء بلا رحمة، وصاحب ذلك الجفاف فنام الناس جياعا، وأكل القوي منهم الضعيف، وانتشرت اللصوصية، وارتفعت الأسعار وقلّت التغذية، إلا أنهم واجهوا واقعهم وآمنوا بوجود ضوء في آخر النفق.
في هذه الحلقات، وخلال الشهر الفضيل، تسافر بكم جريدة “أمَزان24” عبر التاريخ، لتعيد رسم معالم أزمات عايشها المغاربة والعرب، بعضها غيّر مجرى التاريخ بأكمله.
الحلقة الثالثة: فتوى جواز بيع الأبناء حينما قتل الطاعون نصف المغرب
تضرر المغاربة من المجاعة الكبيرة مابين 1776 و1782 التي جاءت نتيجة للجفاف، خصوصا في عام 1778، الذي انحبس فيه المطر على جميع الجهات وتسبب في هلاك الدواب، وبحسب المؤرخ محمد الضعيف، وقع موت البقر حتى كاد ينقطع، وأوضح كلامه الشيني قائلا؛ “إن البهائم نفقت بالآلاف، ولا يمكن تعويض هذه الخسائر حتى لو توفر الكلأ لمدة أربع سنوات متتالية”.
وظهرت أسراب ضخمة من الجراد صيف 1778. ويفهم من رواية الشيني أنها لم تتلف المزروعات، إلا أنها تركت يرقات صغيرة سرعان ما أفرخت وأهلكت المحاصيل، واستمر الجراد في السنة التالية، وغطت جحافله البوادي خلال الربيع، ولم تبق إلا الحقول الجرداء وضاعت المحاصيل، واستفحل الجوع حتى كاد يأكل الناس بعضهم بعضا، وإن كان محمد الضعيف قد أشار للأمر بقوله “بالكاد يأكل الناس بعضهم”، واكتفى ابن الحاج بالقول إن الموت جوعا كثُر في المغرب، فيما الزياني أكد أن المغاربة أكلوا البشر والموتى والدم والخنزير.
فتوى جواز بيع الأبناء لسد حاجات الأسرة
استمر الجوع في قتل الناس خصوصا في الرباط وأحوازها، ووصف شنيي ذلك في مراسلات بتاريخ 18 دجنبر 1779 قائلا، “بلغ الجوع بالقرويين مبلغه وهم يجوبون الحقول بحثا عن الجذور، والكثيرون يتهالكون جوعا”، مضيفا “ما يزال الموت يفتك بالناس، لقد تم العثور على أسر بأكملها ميتة في الطريق”. وبعد شهرين كتب يقول، “إن عددا لا حصر له قد هلك بالبؤس والجوع”.
ورغم بشارة سقوط المطر بشكل منتظم، إلا أن ضعف الإمكانيات بعد موت الدواب وانعدام البذور وغلاء أثمانها جعل المحصول ضعيفا في جميع المغرب، والجوع دفع إلى تهافت الناس على الغلات قبل نضجها، وفي مناطق أخرى نشب صراع بين الناهبين الجياع والملاكين، وهو ما وصفه المؤرخ الاسباني، “لوريدو Lourido”، بالصراع من أجل البقاء.
وعلى الرغم من استمرار المجاعة لسنوات عجاف، عاد الناس إلى الحياة المهادنة لا يقض مضجهم شبح الموت، واستمر ذلك لما يقارب العشرين سنة، ضمد المغاربة خلالها جراحهم، إلا أن “لعنة شؤم” كما وصفوها حلت بهم من جديد، قبل خمس سنوات من الطاعون، عادت مجاعة لم تسهب فيها كتب التاريخ، إلا أن مخطوط النوازل الفقهية لمحمد بن عبد السلام بن ناصر انتقد فيه بغضب أحد معاصريه الذي أفتى بجواز بيع الآباء أبناءهم لسد حاجيات معاشهم في مجاعة 1793.
بعد المجاعة…الطاعون يعود من جديد
بدأت المخاطر تحدق بالمغرب بعد انتشار الطاعون في مصر وانتقاله إلى تونس ومنها إلى الجزائر حيث استمر هناك لسنوات، وعلى الرغم من عدم اتخاذ المغرب إجراءات واقية صارمة إلا أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله وضع العساكر على الحدود الجزائرية لوقاية مملكته، وفي عام 1797 أصدر السلطان ظهيرا ينص على شل جميع المواصلات القارية في حدوده الشرقية، غير أن ذلك كله أخر وصول الوباء ولم يمنعه.
وتضاربت الأقاويل حول المعبر الذي مر منه الطاعون ليجثم على المغاربة، لكن الأكيد أنه وصل المغرب سنة 1799، وبحسب المؤرخ محمد الضعيف فإن مولاي الطيب خرج من فاس الجديد، في السنة نفسها، بعد أن مر من مكناس وتادلة والشاوية وقصبة واشراكة وأولاد جامع ووجد الطاعون ينهش أهلها.
الطاعون الكبير الذي يقتل صاحبه في يوم واحد
ونظرا لهول الواقعة، وصفوه بالطاعون الكبير، وسموه بالبلاء الذي يفضي للهلاك، هربوا منه ولاحقهم، وقال عنه مؤلف “الابتسام”؛ غاب سنوات وعاد ليعم بوادي المغرب والأمصار وخلت بسببه الخيام والديار، ومنهم من اعتبره من علامات ظهور المهدي المنتظر؛ “إذا دخلت النصارى مصر وظهر الوباء في المغرب وخرجت النصارى بالسواحل ظهر الإمام المهدي”.
وفي وصف المشرفي للطاعون يقول؛ “جاء الطاعون وهو خروج شيء في مغابن الإنسان كإبطيه يشبه الجوزة يسود ما حولها أو يحمر… يمرض به الإنسان لأيام معدودات وربما يعيش، ولما يطعن به يتقيأ كل ما يشربه، ولا يكاد يصبر على الماء إلى أن يقع له إسهال في البطن أنثى من رائحة الجيفة…”، وظهر طاعون آخر وصفه القنصل الإنجليزي دجاكسون قائلا، “إن المريض الذي كانت تأخذه القشعريرة ولم تكن تظهر عليه الدماميل، كان يموت في ظرف 24 ساعة وكانت جثته تتعفن بسرعة”؛ وهي أعراض للطاعون الرئوي الحاد الذي يموت المصاب به مائة في المائة.
رغم الحجر.. القحط والجراد والطاعون أهلكوا الآلاف
فرضت السلطات المغربية الحجر الصحي على مليلية وطنجة والعرائش وتطوان، إلا أن تلك التدابير كانت ضعيفة ومحدودة، وعم الوباء المغرب كله. وتزامن ذلك بقول باسكون “ذروة أزمة لا مثيل لها في نهاية قرن تتالت فيه شتى ضروب المحن؛ حروب أهلية وقحوط ومجاعات”، ويقول محمد الضعيف أذن للناس لصلاة الاستسقاء في 1799، ثم بعدها انتشر الجراد في كل الجهات.
ونظم السلطان مولاي سليمان حملة بجيش كثيف في قرار غير مبرر إلى الجنوب لإخضاع قائد عبدة وآسفي عبد الرحمان بن ناصر، يقول الفشتالي، “تحرك مولاي سليمان إلى أرض مراكش ومعه خلق كثير ولم يكن لسفره دليل ولا موجب”، وحين وصلوا الرباط اشتد بهم الطاعون وأضحى يقتل 130 ضحية في اليوم، ما عجل برحيل السلطان إلى الصويرة ثم مراكش، ورجع إلى مكناس هروبا من الموت.
والطاعون الذي يهرب منه السلطان متنقلا بين المدن نقله جيشه إلى المناطق التي مر بها، وكتب قنصل إنجلترا بطنجة يقول، “إن جيش السلطان قد نقل العدوى من فاس إلى الرباط ثم إلى باقي السهول الأطلنتكية”، ووصف محمد الضعيف ذلك قائلا، “ارتحل السلطان وفي كل يوم يموت من جيشه كذا وكذا بالوباء، ولما قطع وادي أم الربيع وكأنه نهض بجندين؛ جند من العسكر وجند من الوباء، ولم يكن بدكالة وعبدة وغيرهما حتى دخل السلطان لبلادهم”، ماجعل قنصل أمريكا بطنجة يقول، “إن المدينة تتمتع بصحة جيدة، لكن يخشى أن ينتقل إليها الوباء بعد عودة المائة جندي الذين رافقوا السلطان إلى الجنوب”.
الطاعون يقتل 65 ألف ضحية بفاس ولم يبق في حي سوى ثلاثون
ضرب الطاعون كل المدن المغربية في سيل جارف بلغ بحسب القنصل الإنجليزي دجاكسون 65 ألف ضحية بفاس، و50 ألف ضحية بمراكش، 5 آلاف ضحية بآسفي، و5 آلاف و500 ضحية بالصويرة. وبحسب كيلي، القنصل الفرنسي بطنجة، بلغت الوفيات يوميا مابين 700 و800 ضحية.
ويقول كورتس، الرحال الإنجليزي، “إن الوباء فتك في سنة 1801 بحوالي 15 ألف شخص في حي واحد من أحياء فاس، ولم يبق في الحي سوى 30 شخصا”.
وفي الرباط، بحسب تاجر فرنسي بالمدينة، بدأ الوباء بقتل ما بين 20 و25 ضحية يوميا، وبعد شهر أصبح معدل الوفيات 170 ثم بلغ 250 ضحية في اليوم، الأمر نفسه بسلا وصل في 24 يوليوز إلى 160 ضحية يوميا.
ويقول جودارد وهو مؤرخ، اتسم الوباء بقوة تدميرية كبيرة، إلا أن هناك من بالغ في تقدير مجموع خسائرها في 20 ألف أي ما يعادل ثلثي سكانها.
الفشتالي: يدفنون ما يزيد عن ألف كل يوم
في مراسلة له يوم 9 يوليوز 1799، يقول القنصل الأمريكي سيمبتون، إن الوفيات بمراكش بلغت 500 ضحية في اليوم، ووصلت إلى 2000 في اليوم، وبلغت في تارودانت 800 ضحية، مضيفا أن حامية مخزنية بتارودانت لم ينج منها سوى جنديين من 1200.
وبحسب دجاكسون، مر بإقليم حاحا الذي شاهده قبل الوباء مزدهرا بالسكان أصبح قرية مهجورة، وذلك شأن قرى أخرى جنوب الصويرة؛ لم يبق في واحدة سوى 4 من مجموع 800، وفي أخرى لم يسلم سوى 8 من 600.
وقال محمد أفيلال، “كان يموت في بلدتنا تطوان كل يوم 130 يزيد بعشرة أو ينقص نحوها”، وعن شهر مارس 1799 يضيف الفشتالي، “يدفنون ما يزيد على ألف في كل يوم”، وبقول محمد الضعيف، “وكثر الوباء بفاس البالي والنواحي حتى مات من الخلق ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى”.
وبحسب الروايتين؛ الأجنبية والمغربية في الدلالة على حجم الخسائر التي أصابت البلاد والعباد بعد الطاعون الذي يعتقد أنه أباد ثلث أو نصف سكان المغرب، وانعكس ذلك طويلا على مختلف الميادين.