الدريدي مولاي بوبكر.. رحلة الموت في معركة “لا للولاء”

ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي

بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.

وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..

في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.

الحلقة السادسة عشرة: الدريدي مولاي بوبكر.. رحلة الموت في معركة “لا للولاء”

غادر الدريدي مولاي بوبكر سفينة الحياة في سن مبكرة تناهز 19 سنة، بعدما قرر أن يتخذ من أمعائه سلاحا لمواجهة بطش الاعتقال والتضييق والتعذيب. رحل الدريدي مبكرا في إضراب عن الطعام من داخل السجن، ليقدم بذلك شهادة بارزة توضح كيف تعاملت الدولة إبان “سنوات الحمر والرصاص” مع الشباب الذي طمح أن تتسع البلاد للجميع.

مولاي بوبكر من الشباب المراكشيين الذين خرجوا ذات يوم في يناير من سنة 1984، لرفض سياسات الدولة في كل المجالات ومنها التعليم، وهو الحقل الذي كان ومازال ينتمي إليه طالبا للعلم، لكن مسيرة الرفض التي انتمى إليها، لم تكن نهايتها بعيدة عن الاعتقال والتعذيب والموت، بل كانت تلك وِجهتها..

وإذا كان الكثيرون ممن حملتهم مخاضات التجربة إلى الاعتقال في تلك السنوات، خرجوا أحياء ومنهم من فاوض برصيدها من أجل مكاسبه، فإن الدريدي كان من هؤلاء الذين رفضوا أن يفاوضوا، فتمسك بحقه حتى النهاية، ولم يكن عبثا ولا صدفة أن سمى إضرابه عن الطعام وهو ورفيقه مصطفى بلهواري بـ “معركة لا للولاء”..

مولاي بوبكر من الشباب الذين انتموا إلى اليسار الراديكالي في لحظات عرفت بالجزر، فانخرط بالمقابل في مَدٍ طلابي وجماهيري ينشد التغيير، رغم أن فرصه كانت ضئيلة، إذ إن أغلب من تبنوا الخيارات الراديكالية حينها كانوا إما محكومين بعقود من السجن أو أمواتا مجهولي القبور، أو منفيين ينظرون إلى وطنهم من بعيد، متشوقين للعودة إلى أحضانه.

معاناة مولاي بوبكر لم تقتصر عليه وحده، بل شملت حتى عائلته الصغيرة قبل الاعتقال وأثناءه ثم بعده، وعلى رأس من تجرعوا المراراة في ملفه توجد والدته السعدية، التي رحلت عن الحياة ومازالت في قلبها غصة فراق ابنها وهو في ربيع العمر..

طُوي ملف الدريدي ووضع على الرف، ولم يبقى منه سوى قبر بمدينة مراكش يزوره القليلون، وذكريات يحملها بعض الرفاق ويتقاسمونها في السر، وبيانات للعائلة تخلد بها ذكرى الرحيل كلما جاء الـ 27 من أكتوبر من كل سنة، تنتقد فيها سياسات الدولة وتطالب بمحاسبة الجناة الذين راقبوا بوبكر وهو يرحل بالتقسيط..

من مراكش إلى أوطم!

ولد مولاي بوبكر الدريدي، الذي أصبح مرتبطا بلفظ الشهيد، سنة 1965 بمدينة مراكش، وفي نفس المدينة تابع دراسته بمختلف مراحلها. فبعد أن أن أتم دراسته الابتدائية والإعدادية، التحق مولاي بوبكر بثانوية أبو العباس السبتي بمراكش، ثم التحق بكلية العلوم بمراكش بعد حصوله على شهادة الباكالوريا في موسم 83/84.

ومنذ التحاقه بالجامعة، وكغيره من أبناء جيله خاصة القادمين من الأوساط الفقيرة، التحق بوبكر بالنضالات الطلابية عبر الانخراط في النضالات التي يؤطرها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وانتمى لفصيل “النهج الديمقراطي القاعدي” الذي حمل على عاتقه استمرارية تجربة الحركة الماركسية اللينينية المغربية.

وأثناء انخراطه هذا، عرف بوبكر كما يحكي للذين جايلوه، بتحركاته النضالية المتميزة، خاصة بكلية العلوم التي كان يتواجد بها مصطفى بلهواري، فأهلته ديناميته لتحمل المسؤولية من داخل “أوطم”، الإطار الذي كان قد دخل فترة ما يعرف بـ “الحظر العملي” منذ 1981، إذ كان الدريدي مسؤولا من داخل لجان الأقسام من داخل كلية العلوم.

تبني “معركة الشعب”

لم تتوقف نضالات بوبكر عند حدود الجامعة، بل امتدت إلى التعاطف مع نضالات الشارع والانخراط فيها وتأطيرها، وكان سياق بداية الثمانينات من القرن الماضي محكوما بأحداث سياسية بارزة وعلى رأسها ما يعرف بانتفاضتي يونيو 1981 ويناير 1984، هذه الأخيرة التي ستلجأ الدولة بعدها إلى حملة اعتقالات واسعة..

على غرار الكثيرين، تم اعتقال الدريدي مولاي بوبكر إبان تلك الأحداث (1984)، إذ سيتعرض حينها، كما تحكي عائلته، لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل، ابتداء من مخافر الشرطة بمدينة مراكش، وصولا إلى المعتقل السري “درب مولاي الشريف”، هذا الأخير الذي اكتسب سمعة مرعبة بفعل ما كان يمارس داخله وفق الشهادات الكثيرة.

خلال فترة الاعتقال، كانت العائلات تجهل مصير الأبناء، وكلما ذهبت للسؤال عنهم تُرد خائبة بدون إجابات، وعند انطلاق المحاكمات وبعد سلسلة من الجلسات ستأتي الأحكام قاسية، وسيكون نصيب الشاب الدريدي مولاي بوبكر 5 سنوات سجنا نافدا، لينقل بعدها مع ما عرف بمجموعة مراكش إلى سجن بولمهارز في ظروف لا إنسانية.

معركة “لا للولاء”

سطر المعتقلون مجموعة من المطالب لإدارة السجون وانخرطوا في الدفاع عنها، وكانت كلها حول تحسين وضعيتهم بالسجون والسماح بإدخال الجرائد والمذياع وكذا زيارات العائلة، ولم يكن سلاحهم حينها سوى أمعاؤهم، وبعد إضرابات عن الطعام، يتم تفريقهم على مجموعة من السجون الأخرى بكل من آسفي والصويرة وغيرها.

وبعد رفض الاستجابة لمطالبهم، قرر المعتقلون خوض معركة لا محدودة عن الطعام سموها “معركة لا للولاء” فيهم الدريدي إلى جانب رفاقه المعتقلين السياسيين، ومن بينهم رفيقه مصطفى بلهواري، وسبب الإهمال ورفض العلاج والإهمال المتعمد، سيموت الدريدي بعد 55 يوم من الإضراب، بتاريخ 27 أكتوبر 1984 ، وذلك يوما واحدا قبل وفاة مصطفى بلهواري بالطريقة نفسها.

كان نصيب بوبكر هو الآخر أن يرحل مبكرا عن وطن أنهكته التنافضات والمشاكل الإجتماعية، رحل ضحية لمن كان يفترض فيهم حمايته، تاركا أسئلة كثيرة وراءه حول مصيره والجناة الذي يتحملون مسؤوليته، وأخرى حول مصير وطن زج بأبنائه وراء القضبان وشاهد رحيلهم الواحد تلو الأخر..

قد يعجبك أيضا
تعليق 1
  1. البوزياني احمد يقول

    لست ادري من سمى هذه المعركة لا للولاء،فانا واحد من المساهمين و الفاعلين في هذه المعركة و كنا نطلق عليها معركة الشهيدين بعد واستشهادهما٠ لم يصدر عنا قط في بياناتنا او بلاغاتنا هذا النعث..فرجاء تحروا قبل النشر قبل ان اكون مضطرا لنشر بيان للحقيقة…

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.