محمد بنونة.. مهندس حمل السلاح في وجه نظام الحسن الثاني فمات “بطلا بلا مجد”

ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي

بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.

وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..

في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.

الحلقة الثامنة: محمد بنونة.. مهدنس حمل السلاح في وجه نظام الحسن الثاني فمات “بطلا بلا مجد”

محمد بنونة الملقب بـ “محمود”، رجل بسيرة متميزة، بقي اسمه راسخا في البيت الاتحادي، وعلى الرغم من تهميشه رسميا إلا أن اسمه مرتبطا بتوصيف “الشهيد”، وهو رجل عاصر محطات مهمة في تاريخ المغرب إبان الكفاح المسلح ضد المستعمر، وأثناء بناء المغرب الحديث.

محمد بنونة أو محمود، كما كان يناديه أعضاء المنظمة السرية، كان يريد كما أبناء جيله، أن يرى المغرب متقدما، وأن يتخلص من التبعية، فقادته الصدف إلى حمل السلاح في وجه نظام الحسن الثاني، بعدما عجزت السياسة في نظره عن تقديم الحلول..

هكذا وذات اجتماع في باريس، اجتمع محمود برفاقه في التنظيم الذي كان موازيا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وقرروا أن الوقت قد حان لاستجماع قواهم من الشباب الذين كان يطمح للتحرير، وهي القوات التي تلقت تدريبها بمعسكرات الزبداني بدمشق، والعديد من البلدان العربية الأخرى، وبدوره بنونة كان منهم.

جاء القرار بالدخول إلى المغرب، واتخاذ منطقة خنيفرة، حيث الفلاحين الفقراء والبسطاء الناقمين على سياسة الدولة، منصة لانطلاق “كفاحهم”، لكن نظام الحسن الثاني، كان قد استشعر الهجوم، فحصلت المواجهة يوم 3 مارس 1973، فسقط من سقط، وأعدم من أعدم وفرّ من فر إلى خارج الوطن.

كان محمود إلى جانب الفقيه البصري وعمر الدهكون من متزعمي حركة “3 مارس”، وإن كان البصري بعيدا عن لهيب الميدان، فإن بنونة ودهكون كانا في قلب المغامرة، التي كانت كل المعطيات تشي بفشلها. فسقط الأول برصاص الجنود يوم 6 مارس، بينما أعدم الثاني بالسجن المركزي بالقنيطرة. وكان بنونة قد حكم بالمؤبد قبلها سنة 1970، إبان محاكمة مراكش.

حكاية المعركة الأخيرة

يقول المهدي بنونة عن غمار التجربة التي خاضها والده، في كتابه “أبطال بلا مجد”: “كان محمود يعيد ويتدرّب على موته. وهي النهاية الحتمية لملحمة مأساوية. كان حافزه هو طموحه الذي كان يجهل المجد الشخصي. إنه عمل يدعو إلى كفاح يستمر حتى انمحاء الذات نفسها”.

ومحمد بنونة، كان يعلم أن الموت ينتظره لا محالة، وعلى الرغم من ذلك أصر على المجيء، بحسب ما قاله العباس بودرقة الذي كان قريبا من الفقيه البصري آنذاك، ويضيف العباس في مقابلة تلفزيونية أن الهدف لم يكن هو بدء الهجوم حينها، بل كان هو أخذ الوقت من أجل استقطاب الفلاحين ومن يحمل السلاح، لكن بنونة كان قد كلف الشخص الخاطئ بمهمة، فذهب وأخبر السلطات عوض القيام بمهته.

كان بمقدور محمود بنونة، وهو الذي درس الهندسة في ألمانيا الشرقية، أن ينال منصبا حكوميا لكنه رفض، وكان بإمكانه أن يعيش عيشة مستورة وأن يربي طفله المهدي الذي تركه وهو في عمر ست سنوات، لكن طموح تلك الفترة في مغرب يقطع مع مظاهر الاستعمار ويتسع للجميع كان أكبر من أن يستكين محمود إلى حياة عادية.

يقول المهدي تعليقا على فشل تلك التجربة التي قادها والده: “إن موعد اللقاء بين المغرب وتاريخه، وهو اللقاء الذي لم يحدث، دشن مآسي المستقبل.

في يوم 10 ماي في سنة 1973 ، وبعد أن استخلص مصطفى الوالي الدروس من الفشل، أخذ مصيره بيده وأسس البوليساريو. وفي يوم 18 دجنبر من سنة 1975، سقط عمر بنجلون برصاص فريق مسلح وقّع بالدم صعود مذهب جديد: الإسلاموية. إن فشل ثورة آخر فرصة هذه قد زج بالبلد في صراع مع خروج غير كامل من الاستعمار، ومع إفلاس اجتماعي سوف يغذيان على التوالي حربا دامت ثلاثين سنة وإسلاموية زاحفة”.

من الرباط إلى ألمانيا الشرقية

ازداد محمد بنونة “محمود” بمدينة الرباط سنة 1938، كان أبوه هو المعطي بنونة ويشتغل بقال، وأمه كانت هي الباتول بنت محمد ملين.

من ولادته كان محمد بنونة قريبا من أجواء المعركة الكبرى التي خاضها المغرب ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، فتأثر منذ صغره بنضال أخيه الذي شارك في بناء طريق الوحدة، وكان يحكي له عن حجم الفخر عند شباب يبني البلد بسواعده، وامتزج شباب بنونة بإنجازات المقاومة المسلحة، إذ إن بيته كان يحتضن الاجتماعات السرية لمناضلي حزب الاستقلال والفارين من سلطات الاستعمار..

كان عمر محمد بنونة 17 سنة عند عودة محمد الخامس من المنفى، والتي كانت تشكل انتصارا للمغاربة ولنضالاتهم، وكن محمد قد عاش جزءا من تفاصيل ذلك وساهم فيه. بعد الاستقلال، ومن أجل تدبير لقمة العيش، أصبح محمود حارسا ليليا في إحدى المدارس ليساعد عائلته، ثم صار بعدها مستخدما في مصلحة التواصل بوزارة الخارجية.

وفي مرحلة الثانوية، تخصص محمود في العلوم، الاختيار الذي لم يكن ميولا ذاتيا بالمطلق، بل كان رغبة في أن يساهم في بناء مغرب الاستقلال كما باقي أبناء جيله، وهو المغرب الذي كان بحاجة للتقنية والعلوم، فاجتاز البكالوريا في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وهي الثانوية التي كانت معروفة بتفريخ الوطنيين آنذاك..

عاش بنونة لحظة الصراع الذي كان دائرا في رحم حزب الاستقلال، إذ إنه كان مسؤولا عن إدارة الطفولة الشعبية بمدينة الرباط، وهي منظمة كشفية تابعة للحزب، تسعى إلى تربية الأطفال وزرع الوطنية فيهم، واختار محمود الاصطفاف إلى المهدي بن بركة الذي كان إلى جانب القرابة الإيديولوجية، زوجا لابنة خالة محمود المسماة غيثة بناني.

بعد إنهائه دراسته، اشتغل محمودا موظفا يجمع الضرائب من المناطق المغربية، فكان يرى وضعية الفلاحين الفقراء ومعاناتهم. بعدها سافر بمنحة من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إلى ألمانيا الشرقية ليتلقى تكوين مهندس إلكترونيك، وعندما عاد إلى المغرب رفض العديد من المقترحات بشغل وظيفة حكومية، وفضل التفرغ للعمل السياسي والنضال وسط العمال الفلاحين..

شهيد في عيون رفاقه وإرهابي في عيون الدولة

عاش محمود العديد من الأحداث التي بصمت في وعيه ما بعد الاستقلال، وجعلته يقف على الصف النقيض من نظام الحسن الثاني، من الأحداث التي شهدها الريف سنة 1958، إلى معركة “إيكوفيون”، التي تم فيها القضاء على جيش التحرير بالجنوب، مرورا عبر أحداث 1965 وبعدها اغتيال المهدي بن بركة، والمد الثوري الذي كان يعيشه العالم، وانتفاضة الطلاب بفرنسا وغيرها من الأحداث السياسية، التي كانت فترة الستينات مسرحا لها.

ولهذا كان التخطيط لأحداث 3 مارس 1973 قدرا ظلّ يناديه، فلبى نداءه، ليسقط شهيدا في عيون رفاقه، وتذيع الإذاعات الرسمية خبر قتل “قائد الإرهابيين” بعد مطاردات في جبال خنيفرة.

قد يعجبك أيضا
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.