أمين التهاني.. مهندس الإلكترونيك المناضل ومسيرة “الحقيقة المُغيّبة”

ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي

بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.

وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأحمر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..

في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.

الحلقة السابعة: أمين التهاني.. مهندس الإلكترونيك المناضل ومسيرة “الحقيقة المُغّيبة”

منذ ما يقارب الـ 35 سنة، لفظ أمين التهاني آخر أنفاسه يوم 5 نونبر 1985 بدرب مولاي الشريف، ومنذ ذلك الوقت لم يتم تحديد المسؤولين عن وفاته ولا ظروفها، كل ما حدث أن القضية طالها غبار التقادم حتى أصبح الابن أيمن، الذي تركه والده وهو لم يكمل سنته الأولى بعد، يرافع أمام المحاكم ويشتكي من أجل إجلاء الحقيقة، لكن الحقيقة في هكذا ملفات، تشاء لها الأيدي أن تصير “حقيقة مغيبة”.

كان بإمكان أمين التهاني أن يعيش حياة عادية، وربما أن يعيش حياة بورجوازي صغير أو متوسط، ويغتني من مهنته كمهندس في الإلكترونيك والأتومتيزم، أو ربما يختار أن يسافر إلى دولة متقدمة لينال وظيفة وحياة مستقرة، لكنه فضل البقاء في المغرب، وإلى جانب عمله كمهندس، تبنى التهاني قضية من هم في أسفل الهرم وحقهم في أن يعيشوا بهناء وكرامة.

أمين التهاني من الأشخاص الذين اختاروا ركوب “سفينة” النضال بالحركة الماركسية اللينينية، بينما كانت تتقاذفها أعتى أمواج الاعتقال والقمع والنفي، إذ إن أغلب المنتمين لها آنذاك كانوا في السجون. فأمين التحق بالجامعة منتصف سبعينات القرن الماضي، حيث كان ما وُصِف بالقمع الأهوج يعمل على ردم تجربة تضم مئات المثقفين ليحولها إلى “حلم وغبار”.

قصة أمين مختلفة، فهو قبل أن يغادر هذا العالم ترك طفلا رضيعا لم يتجاوز ثمانية أشهر، لم يستطع الأب أن يشاهد طفله وهو يكبر، ولم يستطع الابن بدفء حضن الأب، ولابد أن الابن الآن اكتشف “أنه أصبح أكبر من والده” بسنوات..!

الرحلة من وجدة إلى مدرسة المهندسين 

بمدينة وجدة، وتحديدا يوم 4 نونبر 1956، سيرى أمين التهاني النور أول مرة، وتابع دراسته بالمدينة نفسها إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، شعبة العلوم الرياضية شهر يونيو 1974.

انتقل بعدها إلى مدينة الرباط لمتابعة دراسته في المدرسة المحمدية للمهندسين، وهي المدرسة التي كانت معروفة بتفريخ المعارضين، إلى أن اضطرت الدولة إلى إغلاقها، وهناك سيناضل التهاني داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، في عز ما عرف بـ “الحظر القانوني” الذي فُرض بعد مقررات المؤتمر 15، وسيستمر أمين في النضال بعد رفع الحظر سنة 1978.

كان أمين التهاني رئيسا لجمعية طلبة المدرسة المحمدية للمهندسين، والتي ساهمت آنذاك في بلورة أشكال التنسيق الطلابي، الذي بقي مستمرا رغم توقف نشاط المنظمات بسبب الاعتقالات، وفي مرحلة الخفوت والتراجع تلك، سينخرط في صفوف تنظيم إلى الأمام منذ السبعينات، وبقي قياديا فيها إلى غاية يوم اختطافه.

في سنة 1980 سيحصل التهاني على دبلوم مهندس دولة في الإلكترونيك و الأوتومتيزم الصناعية في سنة 1980 من المدرسة المحمدية بالرباط، ليخرج من الحياة الطلابية إلى العملية محتفظا بوهجه النضالي.

المهندس والخدمة المدنية

بمجرد تخرجه مباشرة، سيوقع أمين عقدة عمل مع المكتب الشريف للفسفاط، لكن وزارة الداخلية قررت إرساله إلى مدينة الرشيدية في إطار الخدمة المدنية، وأضاف رفاقه أنها أيضا محاولة لغسل دماغه من أفكار اليسار.

بعد انتهاء مدة الخدمة المدنية، التحق بشركة جنرال تاير، ثم بشركة سامير حيث تحمل مسؤولية مصلحة صيانة المعدات الكهربائية و الإليكترونية. وعلى الرغم من بدئه مساره المهني، بقي التهاني منخرطا في التحركات التي خيضت مطلع الثمانينات، وأبرزها ما عرف بانتفاضة “كوميرا” سنة 1981 وانتفاضة 1984 بمراكش، ولعب دورا في تأسيس الاتحاد الوطني للمهندسين وشارك في إعداد مؤتمره الأول.

في نوفمبر من سنة 1983، سيدخل أمين التهاني عش الزوجية، ليزدان فراشه بطفل سماه أيمن في 30 مارس 1985. لكن الأسرة الصغيرة لن تستمر أبعد، ففي يوم 27 أكتوبر 1985، اختطف أمين وزوجته، ليتم اقتيادهما إلى المعتقل السري درب مولاي الشريف، ستخرج الزوجة بعدها، لكن أمين سيبقى هناك إلى يوم 6 نوفمبر 1985، حيث توفي عن عمر يناهز 29 سنة، حسب أقوال عائلته ورفاقه، من جراء التعذيب الذي تعرض له منذ لحظة القبض عليه، ومنع الدواء عنه.

تحريك القضية وشهادة الابن..

بعد أن بلغ أيمن ابن أمين التهاني سن الرشد، سيشرع في تحريك قضية أبيه، لإجلاء حقيقة من اغتال أبيه وهو في ريعان شبابه. وجّه أيمن التهاني يوم 11 فبراير 2005 شكاية، وطلب فتح تحقيق في وفاة والده. وفي يوم 12 يوليوز 2006، وبحسب لجنة الحقيقة في ملف أمين، أخبر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء أيمن تهاني أنه تقرر حفظ الشكاية منذ 30 ماي 2006، وأن الجريمة قد طالها التقادم.

وبعد تسجيل الدعوى من طرف الابن، رفعت الزوجة المسماة ماريا شرف دعوى أخرى تشتكي فيها تهديد شرفها بالاغتصاب، وتم الاستماع للابن والأم بعدها في محاضر، لكن الرد كان أن المشتكى به يرقد بالمستشفى ويعاني شللا نصفيا بسبب جلطة دماغية.

بمناسبة الذكرى 20 لوفاة والده، قدم أيمن شهادته يوم 27 نونبر 2005 قائلا: “أنا أيمن تهاني ابن الشهيد تهاني أمين، الذي اختطف ثم استشهد من جراء ما تعرض له من تعذيب على أيدي جلادي المعتقل السري درب مولاهم الشريف، يوم 6 نوفمبر1985. اختطف والدي يوم 27 أكتوبر 1985. أعيدت إليّ أمي أرملة بعد أسبوعين وأنا رضيع، إذ لم أكن أتجاوز 8 أشهر”.

شهادة أيمن تهاني كانت قاسية، إذا قال فيها “لم تتوقف السلطات عن تخريب عائلتنا، فبعد اغتيال أبي، تعرضت أمي لعدة مضايقات، إذ تدخلت السلطات لإبعاد أي خطيب اختارته أو تقرب منها ومنعتها من إعادة بناء حياة متوازنة. مازلت أتذكر أمي تبكي جراء الاستنطاقات المتعددة التي تعرضت لها طوال سبع سنوات قبل استرجاع جواز سفرها”.

“أتذكر أيضا لما سألتني أستاذة عن وفاة أبي وأنا طفل ذو سبع سنوات، ولما أجبتها بالحقيقة منعتني من التكلم في الموضوع، كأن أبي مجرم حرب. أما الآن وأنا شاب عمري 20 سنة، طلبت حقي من العدالة حيث توجهت بشكاية قضائية ضد كل من شارك في هذه الجريمة البشعة، لأننا لا يمكننا طي صفحة الماضي إلا بعد قراءة شاملة ولنستعيد الثقة في دولة الحق والقانون التي يتباهون بها”.

قد يعجبك أيضا
تعليق 1
  1. المنذر جغام يقول

    ثرية تجربة اليسار المغربي بكل المقايس ومن كل الزوايا وهي تختلف بما لها من خصوصيات عن تجربة اليسار التونسي الا انهما مع ذلك يتقاسما بعض المميزات من حيث حضور السجن والاختطاف البوليسي والهرسلة والقتل خارج القانوني واغلب ما يميز دول الاستبداد الفردي والتخلف الاولغارشي مع مميز ذاتي آخر الا وهو التشتت الذي خلفته تجربة المعاناة تلك فاليسار الديمقراطي يتميز في اوطاننا بانه كان الاحرص على زراعة الديمقراطية مع انه لم يستفيد من ثمارها فلايزال يعيش وضع الكمون وغلبة السكتارية والانبتات عن جماهير طبقته وحلفها من المقموعين

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.