حينما لجأ المغاربة إلى الحجر والخل لمواجهة للطاعون
المغاربة والعرب في مواجهة أزمات وأوبئة
حصدت الآلاف اجتاحت أوبئة وأمراض فتاكة بلدانا كثيرة أدخلتها في أزمات حقيقية. وكغيرهم عاش المغاربة العرب، فترات حالكة على مدى حقب تاريخية مختلفة. وفي تعاملهم معها لعبوا كل أوراقهم؛ بحثوا في الطب، وطبّقوا الحجر الصحي لحماية أنفسهم، وتمسكوا بالمعتقدات الدينية وتقاليدهم الشعبية في مواجهتهم الأوبئة والأزمات، إلا أنها أسقطت منهم المئات يوميا وأذاقتهم العذاب؛ وقلبت موازين حياتهم، وفتحت الطريق أمامهم على مصراعيه لانتشار الفوضى والسيبة والجوع والسرقة…
صفحات من ماضي الأجداد دوّنها كُتاب التاريخ لرسم صورة بأبعاد واضحة عن صراعنا مع الأزمات والأوبئة. وباختلاف العصور والأمكنة، تكالبت في أحيان كثيرة الظروف الطبيعية والسياسية لتعمق جراح جسد المغاربة والعرب الذي ظل ينخره الوباء بلا رحمة، وصاحب ذلك الجفاف فنام الناس جياعا، وأكل القوي منهم الضعيف، وانتشرت اللصوصية، وارتفعت الأسعار وقلّت التغذية، إلا أنهم واجهوا واقعهم وآمنوا بوجود ضوء في آخر النفق.
في هذه الحلقات، وخلال الشهر الفضيل، تسافر بكم جريدة “أمَزان24” عبر التاريخ، لتعيد رسم معالم أزمات عايشها المغاربة والعرب، بعضها غيّر مجرى التاريخ بأكمله.
الحلقة الرابعة: حينما لجأ المغاربة إلى الحجر والخل لمواجهة للطاعون
سوف نجذف في نهر التاريخ بسنوات للتوقف على الأوبئة القاتلة، التي لم تدخر جهدها في حصد أرواح الأبرياء من المغاربة. فقد عاد الطاعون سنة 1818 من جديد ليجثم على قلوب المغاربة، وافدا من الجزائر بعدما خلف بها طيلة سنة 1817 ما بين 40 و60 ضحية في اليوم.
وعلى الرغم من أن المغرب عمل على حماية معبر طنجة من المراكب الموبوءة؛ بمنعها أو إخضاع ركابها بمن فيهم المغاربة للحجر الصحي في أحد أبراج المدينة، يرى الطبيب الفرنسي رينو أن المغرب نجا من الحمى الصفراء سنة 1810، ومن طاعون 1804، بفضل طرد مركب قادم من الشرق.
اجتماع دولي لفرض حالة الطوارئ
فبحسب المجلس الصحي الدولي بالمغرب، فإن القناصل عقدوا اجتماعا طارئا بعد أنباء حول ظهور الطاعون بالجارة الجزائر، وقرروا فرض الحجر الصحي لمدة 4 أيام على جميع المراكب القادمة من بلاد المغرب الكبير والمشرق الإسلامي، ولمدة يومين على المراكب الأخرى القادمة من الموانئ الأوروبية وراء جبل طارق.
ولتنفيذ القرار، وجه المجلس رسالة لعامل طنجة وأمين جماركها، ولنواب القناصل بمراسي تطوان والعرائش والرباط والصويرة، والتمس أعضاء المجلس من السلطان الموافقة على القرار وتنفيذه مثل ما عمل والده سيدي محمد بن عبد الله في ظروف مماثلة خلال وقت سابق، بتشديد الحراسة على الحدود مع الجزائر، ثم وضع السلطان طبيبا فرنسيا مفتشا صحيا بمرسى طنجة لتعزيز الوقاية من الوباء.
تحسيس المغاربة بضرورة الحجر
يذكر أن السلطان مولاي سليمان شدد على ضرورة الإجراءات الوقائية في خطاباته، وصرّح مرارا بجهل المغرب في شؤون الحجر الصحي، معترفا للقناصلة بخبرتهم في المجال، وخاطبهم قائلا؛ “فأنتم تعرفون كيف تتعاملون مع أهل الوباء في بياعتكم ومشترياتكم، وتجعلون الدراهم في الخل، وتتحفظون كل التحفظ، والمسلمون لا يعرفون ذلك، ولا يتحفظون مثل تحفظكم منه، وذلك فيه ضرر على المسلمين وعلى القناصلة النصارى بطنجة”.
الكتابات التاريخية أكدت أن السلطان كان يتحفظ أحيانا من قرارات الحونطة أو الحجر الصحي تخوفا من التبعات الاقتصادية، وبهذا الصدد يقول محمد بن عبد السلام السلاوي إلى القناصلة، “إن التحفظ مما فيه الضرر، هو جاري بيننا ومبينا بشرع نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الحشرة الشديدة الصادرة منكم هي مخالفة لمراده عليه السلام، ويورث منها الضرر للتجار، غير أن السلطان مولاي سليمان تحفظ على قرار “الحونطة” خصوصا في أمر الحجاج المغاربة العائدين إلى المغرب من الديار المقدسة.
مركب من الحج ورفض الحجر الصحي يدخل الوباء
ازداد الأمر سوءا بعد وصول الحجاج المغاربة سنة 1818 إلى مضيق جبل طارق، وبينهم الأمراء من أبناء السلطان؛ المولى عمر والمولى علي دون خضوع ركاب مركبهما للحجر الصحي بسبب تعرض الهيئة القنصلية لضغوطات قوية من طرف أمين الجمارك وعامل طنجة، عند محاولتهما اتخاذ الإجراءات الصحية مع ولدي السلطان، وخلعت بالتالي اللجنة المراقبة عن نفسها كل مسؤولية. وذكر القنصل الفرنسي سوردو أن الأمر تم بناء على الأوامر الضمنية التي تلقاها الأمناء من السلطان.
ويفهم من الروايات التاريخية، أن المركب ترك في طنجة الجرثومة الأولى للطاعون، وأكد كرابر، مؤرخ من السويد، أن يهوديا حمل أمتعة القائدين من المرسى إلى داخل المدينة، هو أول من أصيب بالوباء، وانتقلت العدوى إلى أخواته في 23 ماي، ليمتن بعد يومين بالطاعون.
وقال المؤرخ الزياني، “وفي سنة 1233، بلغنا أن ولدي أمير المؤمنين مولاي علي ومولاي عمر قدما من الحج ونزلا بمرسى طنجة، ووجه لهما والدهما مركبا من مراكب الإنجليز للإسكندرية، حملهما أصحابهما والحجاج والتجار منها، ولما نزلوا بطنجة كان ذلك سبب دخول الوباء للمغرب”، والأمر نفسه زكّاه الناصري بقوله، “ولما نزلوا بطنجة حدث الوباء بالمغرب، فقال الناس إن ذلك بسببهم”.
الطاعون يقتل وتكاليف الحجر ترتفع
يذكر أن حالات الوفيات الأولى بسبب الطاعون كانت منعزلة وبعضها نسب إلى الانتحار بالسم، واستمر حجر الوافدين إلى المغرب لإبعاد شبح الوباء الذي كان موجودا حينها بالبلاد.
وتوالى وصول القوارب إلى الجهة الشمالية من حجاج وأخرى من الجزائر، وارتفعت تكاليف الحجر الصحي، واختار السلطان عزل بعض الحجاج بطنجة البالية، والسماح للبعض بالدخول دون ذلك. وتوجد رسائل تؤكد الأوامر السلطانية المتناقضة؛ وهي دلالة على تردد السلطان على فرض قيود على الحجاج، إضافة إلى أن مسألة العدوى كانت لا تجد قبولا من بعض المسؤولين، اعتقادا منهم أن الوقاية فرار من القدر وتشبه بالنصارى.
وبحسب الروايات التاريخية، فإن الوباء انتشر في طنجة، ووجدت بؤرته في أحياء متعددة. وبعد ثلاثة أيام من نزول الحجاج توفيت بينهم امرأة بالطاعون، ونقلت العدوى إلى البيت المجاور لها ثم إلى الحي الموالي، وتوفي في منزل واحد 5 أطفال. وفي 18 يونيو أعلنت رسميا طنجة مدينة موبوءة، ثم بدأت أرقام الوفيات في التصاعد خصوصا في أوساط اليهود منذ 22 ماي.
رسائل تاريخية حول الحجر الصحي بالمغرب
واحترازا من الإصابة بالطاعون، شرع جميع القناصل والأجانب بالمغرب، الذين لم يتمكنوا من الفرار في المكوث بمنازلهم، وامتنعوا عن تلقي أي شيء يأتيهم إلا بعد غمسه في الخل.
وفيما يخص الرسائل التي بعثت للسلطان المولى سليمان حول الحجر الصحي أو “الگزنطية”، يقول الحاج أحمد أحرضان: “واعلم سيدي أن القناصل كتبوا لسيدنا نصره الله في اليوم الذي قدم شيخ الركب، وأمرهم سيدنا نصره الله بأن قدم هذا المركب يجعل له أربعين يوما من الگزنطية؛ الحجر الصحي، في موضع بطنجة البالية، والكتاب الذي قدم عليهم فيه هذا الأمر، لم يجعل له سيدنا نصره الله تاريخا. وقدمت علينا يوم 23 الذي ذكرنا في الشهر، ويوم 25 من الشهر الذي ذكرنا لك، قدم رجل من أصحاب سيدنا ومعه اثنين من الخيل، صحب معه كتاب للأمين العمرتي، وفيه أمر للمركب متاع الحجاج بوصوله إليه ينزله من غير الكرنطينة، وجميع ما عندهم مسرح من غير عشور.. ويوم 26 عند نص النهار، قدم المركب علينا وعمل في سفره أربعة وأربعين يوما وفيه أربعة مائة رجل، وفي الساعة في الساعة التي وصل نزل الحجاج… وأما الحاج عبد الكريم بن الطالب، قدم من الجزائر في مركب الذي عند ابن سليمان… ومعه البحرية متاع الفركاطة، وبعض أولاد بنيه وهو مثقف في المرصة، منعه السيد العمرتي من الهبوط وكتب عليه الأمين والنصارى لسيدنا نصره الله والنظر لسيدنا”.
وفي وثيقة أخرى صادرة عن الحاج العمارتي، أمين الجمارك يقول، “وأما ابن الطالب هو بطنجة، ولكن لم ينزل، ومركب الحجاج قدم ونزلوا في ساعتهم لأن أمر سيدنا يتركون في الحين ولك من عنده سلعة لا تعشر”.
هكذا حاول المغرب اتخاذ بعض الإجراءات اللازمة للحد من انتشار الوباء، إلا أن ذلك لم يمنع من حصده آلاف الضحايا، ولم تكن “الگزنطية” أو الحجر هو طوق النجاة الوحيد الذي تمسك به السلاطين والمغاربة في حقب تاريخية سابقة، بل كان للثقافة الدينية الشعبية حضور كذلك لتأويل الأوبئة والأزمات والتعايش معها.