في نقد سلطة الجماهير

*الخلوقي عبد اللطيف

سأروي لكم حكاية تاريخية طريفة، لكنها محزنة. من ضمن أعماله الأدبية، كتب سلمان رشدي سنة 1988 رواية بعنوان “آيات شيطانية”، رواية أثارت الجدل في الأوساط الدينية. ثارت ثائرة جزء من المجتمع الإسلامي، خرجت شرائح منهم تتوعد دور الطباعة والنشر وتتهدد الكثير من المترجمين، فيما وضعت الحكومة البريطانية سلمان رشدي تحت حماية الشرطة. ما الذي يدعو الجماهير إلى هذا النزوع العدواني العنيف اتجاه آراء شخص أو جهة ما؟  وهل نحن بحاجة إلى مجتمع تكون فيه السلطة للجماهير أم لقواعد عقلانية وأخلاقية؟ ألا يعيش مغرب اليوم أزمة قيم تجاوزت درجتها أزمة كورونا؟

يعيش بلدنا على غرار الكثير من البلدان أيام عصيبة بسبب وباء كورونا. قد يكون من المبرر أن يرتفع سقف تطلعاتنا هذه الأيام، مثلما يمكن أن يرتفع منسوب خوفنا. يدفعنا هذا الخوف إلى التنازل عن بعض حرياتنا، فنمنح الدولة سلطات واسعة. نبحث عن المعلومة، لا بدافع العلم بل بدافع الحاجة.  يتولد لدينا الشعور بأهمية القطاعات الاجتماعية، الصحة والتعليم. وفي غفلة منا، وبدون وعي، نضحي بقيم نحن بأمس الحاجة إليها.

سياق هذا التقديم، عريضة انتشرت مؤخرا في مواقع التواصل الاجتماعي بغرض محاكمة السيد الفايد على خرجاته الإعلامية المثيرة للجدل، والتي ازدادت إثارة عندما قال إن صيام رمضان فرصة للقضاء على كوفيد 19.

هذه الواقعة، وواقعة سلمان رشدي، لا تنفصل عن وقائع شتى شبيهة من حيث الجوهر مختلفة من حيث الشكل. ارتفعت دعوات مضادة تطالب بمحاكمة السيد عصيد أيضا على خرجاته الإعلامية التي تنتقد التوظيف السياسي للدين. قبل ذلك، دعا الناس عند بداية تطبيق الحجر الصحي إلى محاكمة مي نعيمة بسبب إنكارها وباء كورنا ودعوتها الناس إلى التمرد على الحجر ضاربة قانون الدولة عرض الحائط. حكمت سنة سجنا نافذة بسبب عفويتها وجهلها للقانون. رفعت مطالبات أخرى تنادي بإغلاق صفحات تقدم المحتويات التافهة أو غير اللائقة.

إن نزعة البناء التي تميز سلطة الجماهير، عندما يتوجهون إلى مكاتب الاقتراع، أو يشاركون في حرب للدفاع عن أوطانهم، أو يعيدون بحماس بناء مدنهم المدمرة بعد الحرب، لا تختلف كثير عن نزعة الهدم والتدمير التي يمكن أن تصدر عنهم. يمكن أن تختار الجماهير الحلول الأكثر تطرفا، تسجنك اليوم للتعاطف معك في الغد. إن نزوعها الاندفاعي يشبه التوصيف الذي اقترحه خوسيه أورتيغا إي غاسيت في كتابه “تمرد الجماهير”، عندما قال” إن الجماهير عندما تطالب بالخبز تلجأ إلى تحطيم المخابز.

إن السلوكيات التي قد تصدر عن الجماهير، أو جزء من الجماهير، قد لا تخضع لمنطق عقلي أو تعبر عن توجه فكري. يسهل توجيه الجماهير نظرا لسرعة تصديقها وتأثرها. فالإنسان- الجمهور قد يقبل بأي اقتراحات دون أن يخضعها للتفكير النقدي. يبقى ضعيفا أمام سلطة اللغة وتأثير الكلمات الحاملة للصور المثيرة. تجذبه قصة خيالية أكثر من جاذبية وقائع عاشها. يحزن لمشهد مؤثر في فيلم أكثر من حزنه على وفاة أحد أقاربه. الغموض يزيد من سحر الكلمات في ذهنه، فينقاد بسهولة لتوصيات القادة والزعماء. أبلغ تعبير عن ذلك اقترحه غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” عندما اعتبر أن الجماهير لا تبحث عن المعرفة ولا تتعطش للحقيقة، فمن يعرف إيهامها يصبح سيدا عليها، ومن يحاول أن يقشع الأوهام عن أعينها يصبح ضحية لها.

إن مطالبة جزء من الجمهور بمحاكمة السيد الفايد، ودفاع الجزء الآخر عنه باستماتة بلغت حد التقديس، وصمة عار في جبين نخبة تعتبر (مثقفة). نخبة لم تعد قادرة على اقتراح برامج سياسية من أجل مجتمع أفضل، فتحولت إلى فئة يسهل قيادتها وتحريضها. تحولت إلى كمامات توضع على الأفواه لمنعها من الكلام أو التعبير. المحزن أكثر أن تتحول هذه النخب، عوض أن تقوم بدورها التنويري، إلى جزء من جمهور يتبنى خطابات شعبوية. ولا غرابة إن كانت التيارات الشعبوية بدأت تتنامى في العالم أجمعه. فالجماهير استولت على المجال العام والنخبة القادرة على قيادة الجماهير توارت إلى الوراء.

لا أمتلك الكفاءة لتقييم قدرات السيد الفايد أو درجاته العلمية. لكن وفق شروط الواقع الاجتماعي الحالي من حقه أن يقدم نصائحه من باب الحاجة الاجتماعية أولا ومن باب حرية التعبير ثانيا. لا أمتلك إحصائيات دقيقة، لكن شريحة واسعة من أفراد المجتمع تتداوى بطرق تقليدية، تستعمل الحجامة، تتناول الأعشاب، تزور الفقهاء من أجل الرقية الشرعية. كل هذه الخيارات الاجتماعية تملأ بشكل أو بآخر الفراغ الذي تولد نتيجة المشكلات المترتبة عن تدبير الحكومة لقطاع الصحة، نقص حاد في التجهيزات وقلة الأطر الصحية.

إن نصائح الفايد قد تعتبر علمية كما يمكن أن تعتبر مجنونة. لكن من يدعو إلى محاكمته عليه أن يثبت زيف فرضياته بواسطة سلطة العلم. والأفضل، على حد تعبير جون ستوارت مل في كتابه “عن الحرية”، أن نحتفظ بتنوع الآراء على أن نسير في اتجاه مجتمع الرأي الواحد. رأي أغلبية تحركها نوازع انتقامية أكثر من اهتمامها بقيم الحق والعدالة. وعوض أن نواجه الفكر بالفكر، ونقارع الحجة بالحجة، نعمل على تصفية خصومنا باستعمال سلطة القانون. ولو لم تكن هذه السلطة قائمة للجأت الجماهير إلى تطبيق قانون لينش الذي يعطي حق المعاقبة للمجتمع دون إجراءات قانونية.

نظامنا الاجتماعي والسياسي خضع منذ عقود لسيرورة تحديث كباقي دول العالم النامي، وقد يتحول، بفعل النزوع الجماهيري، إلى نظام شمولي/ توتاليتاري يمارس السلطة من خلال تحريك الجماهير وتوجيه خياراتهم. وعوض أن نعلي من قيم تجعل المجتمع أكثر تماسكا، وعوض أن نخضع أفراده لسلطة العلم والمعرفة وسيادة الحق والقانون، وعوض بناء وعي صحي على أسس نقدية من خلال نظام تعليمي فعال وبحث علمي رزين، وعوض أن نسعى نحو توسيع هامش الحريات، نعلي من شأن ثقافة جماهيرية تسود فيها مشاعر الكره والغضب، فيحاكم الناس ليس بدافع الحق بل بدافع التحريض والانتقام. وتصبح الدولة مطالبة ببناء سجون إضافية لاستيعاب أجيال جديدة من السجناء عوض استيعاب الأجيال الجديدة من حقوق الإنسان.

*باحث في الفلسفة وحقوق الإنسان

قد يعجبك أيضا
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.