رسالة المربي بين الأمس واليوم

*أحمد كريم

سعى النظام السياسي المغربي، منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، إلى توجيه سهامه نحو الأستاذ، عندما كان الأستاذ أستاذا وما تحمل كلمة أستاذ من معنى، حيث كان دوره لا يختزل في المقعد الذي يجلس عليه واجترار التفاصيل المملة للمقرر الدراسي، بل كان رجل التعليم حاملا رسالة تثقيفية وتنويرية، تهدف إلى تشكيل وعي سياسي واجتماعي لتلامذته.

 كان الأستاذ يلعب أدوار عدة؛ منها التربية والتعليم والتأطير والتوجيه لنضالات الشارع أيضا، ما أفرز آنذاك ما يسمي الحركة التلاميذية. منذ ذلك الحين فطن النظام لذلك، وأصبح رجل التعليم مجرد شوكة في حلق النظام يجب إزالتها والتخلص منها بأي حال من الأحوال، وأصبح المهم هو ردع رجل التعليم وتقزيم دوره.

 فبدأ مسلسل الإجهاز على الأستاذ بتبخيس وضعيته الاقتصادية، فأصبح يتقاضى أجرا لا يسد جميع حاجياته الضرورية، ثم تبخيسه اجتماعيا، حتى أصبحت كلمة أستاذ يتداولها المغاربة في نكتهم وطرائفهم، بغرض نزع رمزيته، وصولا إلى الهجوم عليه بمخطط التعاقد الذي استهدف ما تبقى من مكتسباته.

إن الحالة التي وصلها الأستاذ اليوم، هي امتداد لسياسة التهميش التي نهجها النظام ضده، وما يقع اليوم في امتحان التربية والتعليم لأطر الأكاديميات، هو إحدى تداعيات السياسة المعادية للأستاذ، وهو ترسيخ  للهوة بين وظيفة التدريس كرسالة، وربطها بقيم الاستهلاك، حتى أصبحت وسيلة للاسترزاق، من خلال خلق سوء الفهم والخلط في بنية تفكيره، إذ أصبح المترشح للمباراة يعتبرها وظيفة تشبه جميع الوظائف.

هذا التحول والتوتر في البنية الذهنية للمترشحين هو نتيجة لهذا المخطط الممنهج، والذي نهجته الدولة منذ عقود ضد الأستاذ. فقد نجحت في صناعة مثل هذه النماذج التي ترى في وظيفة المربي وظيفة من أجل الاسترزاق، جرّدته من كل حس تربوي، وجعلته يلجأ لكل الوسائل لكي يتخلص من هواجس الخوف من المستقبل هربا من مخالب البطالة.

أصبح الهم الأكبر هو أن يستقر وظيفيا، ويصبح له دخل قار، وليس مربيا مهتما بقضايا النشء وحامل لمشروع مجتمعي ينشد من خلاله التغيير نحو الأفضل، مدرسا فاعلا في محيطه ومجتمعه من خلال غرس أفكاره في تلامذته، وصناعة الأثر في نفوسهم وتعليمهم روح النقد وترسيخ ثقافة التساؤل، وتخليصهم من كل أشكال التعصب والدوغمائية والسذاجة الفكرية، وفي نفس الوقت تربيتهم على قيم التسامح والتعايش وتقبل الآخر، وإرساء مقومات الذوق السليم والحس الجمالي لديهم.

إن مترشح اليوم هو نفسه أستاذ المستقبل، لا يعرف هذه المعطيات، ولا يستوعب أن ما ينتظره في المستقبل لا يوازي هذه الإمكانيات الضئيلة، وأن مهمة المدرس أقدس وأنبل من أن نصلها عبر وسائل الغش. فوسائل الغش تدنس قدسية المدرس وتنزع عنه هيبته وتدنس الفئة التي يتعامل معها.

وهنا يطرح السؤال، ما ذنب التلاميذ الذين سيدرسهم أستاذ نجح بفضل الغش عبر تقنية “واتساب”؟ هل هذا المترشح في كامل قواه العقلية؟ يجب عليه أن يعلم أن صفة الأستاذ لا تعطى لمن هب ودب، ودرجتها عالية وقبل كل شيء هي تشريف قبل أن تكون تكليفا. بمعنى أن المعلم والمربي يوجد في مرتبة الأنبياء والرسل.

لكن الملاحظ اليوم، من خلال الإشراف على الامتحان، أغلبية المترشحين لا يريدون أن يكونوا رسلا، بل هاجسهم الوحيد الهروب من البطالة وتحقيق المناعة الاقتصادية، لمواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها اليوم بسبب الجائحة، والتي تتجلى في الارتفاع المهول لأسعار المواد الأساسية، وصعوبة تحقيق متطلبات الحياة الجديدة.

للأسف الشديد، أصبحنا نعيش هذه المظاهر من داخل مراكز الامتحان، حتى صرنا نخجل من أنفسنا، كوننا ننتمي لهذا القطاع، الذي خربته أيادي وسخة ودنسته بمخططاتها التخريبية، عبر “سلعنة” التعليم وجعله سوقا تجارية يستثمر فيها أناس لهم رأسمال مقاولاتي ربحي ولا علاقة لهم بالشأن التربوي والتعليمي.

ما يقع اليوم في امتحان التربية والتعليم من مظاهر الغش يساءلنا جميعا، كدولة وكمنظومة وكمجتمع وكفاعلين تربويين. ما السبب في هذا التردي والتراجع الخطير الذي يعرفه قطاع التربية والتعليم؟ من لديه المصلحة في تخريب هذا القطاع، الذي يعتبر بمثابة حجر أساس تستنهض وترتقي به الأمم؟ أين نحن ذاهبون به؟

ما يقع اليوم يحز في النفس ويؤشر على أننا في اتجاه السقوط والانهيار التام. تصور معي أن مترشحا مقبل على تربية النشء مستقبلا ويغش عبر تقنية “واتساب”، انقلب كل شيء واختفت المبادئ وزهق الحق وأصبح السائد اليوم هو الغش والبهتان والنفاق بكل مظاهره.

*أستاذ

قد يعجبك أيضا
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.