ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة التاسعة عشرة: مصطفى الحمزاوي.. رمز المعطلين الذي مات بعد يوم من اعتقاله ومازال قبره مجهولا
مازالت قضية مصطفى الحمزاوي موضوعة على طاولة النقاش، وهو شاب لم يعرف إلى حدود اللحظة مكان قبره بعد. غادر مصطفى الحياة مجبرا بعد يوم من اعتقاله، وهو يجسد واقع جيل وجد نفسه بدون شغل بسبب خيارات وسياسات تبنتها الدولة. كان مصطفى من المطالبين بحقه في الشغل وفي خضم ذلك فقد حق الحياة، وهي أسمى الحقوق.
بقيت وفاة مصطفى الحمزاوي، وهو الاسم الذي لم تكن له نفس شهرة بعض ممن غادروا الحياة مكرهين تحت سياط التعذيب في حقبة الجمر والرصاص لغزا مازال يرخي بظلاله حتى هذه المرحلة، وهو اسم مازال يستحضره رفاقه المعطلين كلما حل شهر ماي من كل سنة، موعد مغادرته الإجبارية الحياة.
قادما من تخون المغرب المنسي، وتحديدا من مدينة خنيفرة، جاء مصطفى حاملا آمالا كبيرة في مواصلة تعليمه الجامعي بمدينة فاس. كان شغفه أن يدرس الفلسفة؛ وهي الشعبة التي ما فتئت تبت الأسئلة المقلقة في دواخل دارسيها، لكن تعقيدات الواقع دفعته لمغادرة المغرب مرتين بحثا عن لقمة العيش في ديار المهجر.
رغم أن مصطفى كان بإمكانه اختيار الهجرة النهائية من المغرب، إلا أنه لم يستطيع مقاومة رغبته في أن يعود في كل مرة إلى بلده الذي تنكر له. وبعد ثلاث سنوات من الدراسة المتعثرة والموزعة بين شعبة الفلسفة والحقوق، سيختار أن يعود لبلدته، وأن يضم صوته لهؤلاء، الذي تم رميهم على هامش الوطن، هؤلاء الذين يبحثون عن الشغل الذي تحول من حق أساسي تكفله المواثيق، إلى حلم يتطلب معارك وعاهات مستديمة وأحيانا فقدان للأرواح.
كان أب مصطفى الحمزاوي ممن قاوموا الاستعمار الفرنسي ورفعوا الشعارات المطالبة برحيله، كما كان مؤمنا بمغرب الاستقلال ومشاركا في الدفاع عن وحدته بالمسيرة الخضراء، إلا أنه اضطر لسماع خبر ممات ابنه، والرواية الرسمية تقول إنه انتحر في قبو مخفر الشرطة.
كانت رواية “الانتحار” صعبة التصديق بالنسبة للأب أولا، لأنه كان عارفا بظروف الاعتقال لأنه عاش زمن الاحتلال، إذ يتم تجريد السجين من كل ما يمكن أن يساهم في وضعه حدا لحياته، وثانيا لأنه كان قريبا من ابنه، ويعلم أنه لا يمكن أن يُقدم على وضع حد لحياته، فما كان من الأب إلا أن رفض تسلم الجثة إلى حين كشف حقيقة مقتله.
بقيت جثة مصطفى دون دفن لما يقارب 17 يوما، بحسب شهادة الأب، هذا الأخير الذي صرح أن الوكيل العام للملك عرض عليه أن يستفيد من مأذونية (سيارة أجرة) لكنه رفض ذلك قائلا بأنه ناضل من أجل علم أولاده، وكان جوابه “ادفنوه او ارموه”، يحكي الأب أن بيته بقي مطوقا لأيام من طرف الشرطة، إلى أن تم استدعاؤه من جديد، فقالوا له أن ابنه كان من “عصابة المعطلين”، وعندما سأل عن سبب الوفاة كانت الإجابة “ابنك مات وكفى”.
بعد رفض العائلة تسلم جثة مصطفى، أقدمت السلطات على دفنه في مكان ما، وبعد مرور 17 سنة على الواقعة، ورغم ما قيل عن طي صفحة الماضي وجبر الضرر وتجريم الإفلات من العقاب، إلا أن الحقيقة لم تُكشف بعد في ملفه، ومازال اسم مصطفى الحمزاوي يردد من طرف عائلته ورفاقه المطالبين بالكشف عن قبره، ومحاسبة المتورطين في قتله..
رحلة العلم من الأطلس إلى فاس
ذات يوم من سنة 1966، وفي دوار أمهروق بمدينة خنيفرة، التي تنمي وفق التقسيم الاستعماري إلى المغرب “غير النافع”، استقبلت أسرة بن مزيان بن محمد بن حمو وفاطمة بنت سلام مولودا ذكرا اختاروا له من الأسماء مصطفى، هذا الأخير سيعيش بين أربع أخوات وأربعة إخوة في وسط فقير.
مقاوما شظف العيش، ترعرع مصطفى الحمزاوي، وبنفس منطقته التحق بالمدرسة الإبتدائية المركزية “أزلو”، كما قضى سنوات الدراسة الإعدادية بإعدادية “الأمير مولاي عبد الله”، وفي دراسته الثانوية أمضى السنة الأولى بالسلك الثاني بثانوية “أبي قاسم الزياني”، ليلتحق بالسنة الثانية شعبة التربية البدنية بثانوية “الحسن الثاني” بميدلت.
أثناء تواجده بثانوية مدينة ميدلت، ستتفجر لدى مصطفى الدوافع النضالية التي يغذيها الحرمان وقلة ذات اليد، وكان وقتئذ بشهادة من عاصروه تلميذا شغوفا بالعلم متعطشا للدراسة والمعرفة، كما كان له ميول واضح تجاه مادة الفسلسفة، ومن داخلية ثانوية “الحسن الثاني” بميدلت، التي كان يقطن فيها تلاميذ الضواحي، حضي مصطفى بالثقة، إذ كان مسؤولا عن جناح كما تجري العادة بالداخليات المدرسية.
شارك مصطفى الحمزاوي في الاحتجاجات التلاميذية التي اجتاحت عدد من المواقع التعليمية بالمغرب ما بين 87 و88، بعد مقتل الطالبة زبيدة خليفة والطالب عادل الأجراوي يوم 20 يناير 1988 بجامعة ظهر المهراز -فاس-، كما شارك في احتجاجات تلاميذية للدفاع عن حقوقه وزملائه في التعليم وما يرتبط به من حقوق. ويشهد التلاميذ الذين عايشوه خلال تلك الفترة، أنه كان صاحب سلوك متميز معروف بالاستقامة، كما أنه كان مثالا يحتذى به في التضامن والمساعدة لقاطني الداخلية المتحدرين من الفئات الشعبية والأرياف النائية.
بين حلم الهجرة ورغبة العودة
في سنة 1989 حصل مصطفى الحمزاوي على شهادة البكالوريا، إلا أن رغبته في اجتياز مباراة ولوج سلك التربية البدنية بالمركز التربوي لم يتحقق، فالتحق بعدها بشعبة الفلسفة بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس موسم 1989/ 1990، وحيث إن الساحة الجامعية آنذاك كانت مدرسة موازية لما يُلقن داخل المدرجات، فقد كانت الأبواب مفتوحة أمام مصطفى للمعرفة والتعلم والنقاش والتمرس النضالي.
طموحات البحث عن العمل لمساعدة العائلة، جعلته يقطع مسارا متعثرا دراسيا، وفي الدورة الثانية من سنته الأولى، غادر مصطفى المغرب إلى اسبانيا قصد العمل الموسمي ليعود في الموسم الجامعي 90-91، لم يستطع النجاح في السنة الأولى فلسفة، وكانت المفارقة صارخة أمامه بين واقع البلاد التي زارها وبلده المغرب.
وفي سنة 1991 سيعاود السفر مرة أخرى إلى الخارج، إلى إيطاليا هذه المرة، كان بإمكان مصطفى أن لا يعود إلى المغرب حينها، وأن يشق طريقه في أوروبا، لكنه فضل العودة، لأنه لم يستطيع أن يقاوم ذلك الانتماء الذي يشده إلى الرجوع لأهله وأجواء الجامعة، وعند رجوعه قام بتغيير شعبته من الفلسفة إلى شعبة الحقوق بكلية العلوم القانونية الإقتصادية و الإجتماعية بفاس.
رحيل إلى النهاية
في سنته الثالثة، قرر مصطفى الحمزاوي المغادرة، بعد سنتين من الدراسة بشعبة الفلسفة وسنة من الدراسة بكلية الحقوق دون نتيجة، ثلاث سنوات تخللتها فترات هجرة إلى الخارج ثم العودة، إذ سيعود للاستقرار ببلدته في مدينة خنيفرة.
عند رجوعه، انضم مصطفى للفرع المحلي للجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب، ليناضل إلى جانب المعطلين من أجل حق التشغيل، وكانت شهادة رفاقه في الجمعية أنه خرج بكل حماس وشجاعة وجرأة نادرة في طرح مواقفه وآرائه والجهر بها، ما خلق له العديد من الأعداء من بين في أوساط بعض المسؤولين ورجال الشرطة، إذ كان دائم الاصطدام معهم أثناء تدخلهم لتفريق الاحتجاجات، ما جعل اسمه مطلوبا.
سيتعرض مصطفى الحمزاوي للاعتقال في يوم 15 ماي 1993، إذ تم اختطافه من الشارع العام من طرف “أجهزة البوليس” بشكل وصف من طرف المعطلين بـ “التعسفي ولا سند قانوني له إلا إشباع النزوات السادية لكائنات سلطوية لا تتقن إلا التنكيل والغدر، أفزعتها جرأة شاب أعزل في الجهر بكلمة الحق ورفض الخنوع والتدجين”.
الموت والتحقيق المؤجل..
وفي اليوم الموالي لاعتقاله، سيسلم مصطفى الحمزاوي الروح إلى بارئها، مساء يوم السبت 16 ماي 1993، ليجد الأب الذي كان يقاوم الاستعمار نفسه أمام جثة ابنه التي يُطلب منه أخذها للذفن، والسبب هو انتحاره بمخفر الشرطة. طالب الأب بالتحقيق، لكن هذا الأخير سيطول كثيرا ومازالت نتائجه لم تظهر إلى حدود اللحظة.
رحل مصطفى الحمزاوي فارتقى “شهيدا” تُخَلد ذكراه كل سنة من طرف رفاقه، وبرحيله أيضا سجلت الأجهزة رحيل صوت “مشاغب” ينتمي إلى “عصابة المعطلين”، لكن عند عائلته كان رحيلا قاسيا لابن كان يجدر به أن يعيش ويشاهدوه وهو يحقق طموحه وآمالهم، لكن رياح الجمر والرصاص هبت في الاتجاه المعاكس..