بنسعيد أيت إيدر.. فاضح “تازممارت” ومسيرة معارضة الملوك الثلاثة

ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي

بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.

وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..

في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.

الحلقة السادسة والعشرون: بنسعيد أيت إيدر.. فاضح “تازممارت” ومسيرة معارضة الملوك الثلاثة

محمد بنسعيد أيت إيدر واحد من الشخصيات السياسية المغربية، التي بصمت على مسار سياسي طويل، امتد على عهد ثلاثة ملوك، إذ يعتبر ذاكرة حية لما جرى على امتداد أكثر من ستة عقود من الزمن السياسي والنضالي من أجل تحرر المغرب وبنائه.

أيت إيدر رجل من رجالات جيش التحرير والكفاح المسلح، خصوصا في الجنوب المغربي، الذي شهد آخر فصول المقاومة المسلحة، وقد كان من هؤلاء الذي رفضوا وضع السلاح إلى حين استكمال مسيرة التحرير.

تعرض أيت إيدر للاعتقال في مرحلة الاستعمار، ثم سيعتقل إبان الاستقلال بسبب معارضته نظام الحسن الثاني، قبل أن يفرّ للمنفى ووراءه حكم بالإعدام غيابيا، بتهمة المشاركة في ما عرف بـ “مؤامرة 63″، ومن منفاه بقي مرتبطا بالعمل السياسي.

طالت سنواته في المنفى، وعندما عاد إلى الوطن، بعد عفو ملكي بداية الثمانينات، لم يرتكن إلى الظل، بل عاد إلى العمل السياسي من جديد، وأسس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وأصبح ممثلا لمنطقته لأزيد من عقدين من الزمن.

رغم دخوله اللعبة السياسية وإيمانه بالعمل السياسي من داخل المؤسسات، إلا أنه بقي محافظا على لونه المعارض، الذي لم يمحى مع سنوات المنفى. فكان بذلك من أكثر البرلمانيين إثارة للجدل، ويكفيه في ذلك أن كان أول من طرح سؤالا عن المعتقل السري “تازممارت” من داخل البرلمان، في وقت كان مازال يعج بالمعتقلين.

هناك من يطلق على اليساري أيت إيدر اسم “معارض الملوك الثلاثة”، إذ إنه عارض كل دساتيرهم ومازال يدافع عن الملكية البرلمانية، كما أنه رفض تقبيل أيدي الملوك، في المناسبات الرسمية التي حضرها، وأبرزها توشيحه بوسام من طرف الملك محمد السادس.

مازال محمد بنسعيد أيت إيدر إلى اللحظة مرتبطا بالسياسة، إذ يعتبر الرئيس الشرفي لحزب الاشتراكي الموحد، وهو الذي كان له الدور الكبير في لملمة جزء من شتات اليسار ليوحده بالحزب، وقبلها كان فاعلا في ما عرف بالكتلة الديموقراطية، التي كان لها دور في الدفع بعجلة الإصلاحات أواخر حكم الملك الراحل الحسن الثاني.

المسار الطويل الذي قطعه أيت إيدر، جعل منه رمزا سياسيا مغربيا لا يستهان به، وهو الذي تقلب في العمل ما بين حمل السلاح والخطب البرلمانية، وما بين العمل السري الذي يخطط لاقتلاع نظام الحكم والعمل العلني، الذي يؤمن بالتغيير في إطار الممكن، كما أنه بقي على عهده، ودافع عن مواقفه بالشكل الذي كان ومازال يراه سليما.

كان الوضع العائلي الميسور، من العوامل التي جعلت أيت إيدر غير مرتهنا بسلطة المال في تبني المواقف أو تركها، كما فعل كثيرون ممن سقطوا في ذلك الرهان، ما جعله محط تقدير حتى من هؤلاء الذين اختلفوا مع مسيرته وتقديراته السياسية في أزمنة متفرقة.

يتيم مع زوجة الأب..

بقرية تينمنصور باشتوكة آيت باها، ولد محمد بنسعيد أيت إيدر سنة 1925 وسط عائلة متوسطة تمتهن الفلاحة والتجارة، وتتمتع بنفوذ كبير بالمنطقة. حُرم من حنان الأم وهو في سن صغير لم يتجاوز السادسة. وهكذا، نشأ يتيما رغم زواج والده مرة أخرى.

كان لزوجة أبيه الجديدة أثر بالغ في حياته، إذ إنها أدخلت عادات جديدة على البيت التقليدي، حيث كانت قادمة من المدينة إلى بيته المشبع بتقاليد بيئة الفلاحين، وبنمط حياة مختلف، إذ يقول أيت إيدر عنها “بلمسة واحدة من زوجة والدي هذه، تبدلت كثير من عاداتنا البيتية في الأكل والتربية والسلوك”.

في سن الرابعة من عمره، سيلتحق بالكتاب لحفظ القرآن الكريم، ليُتم حفظ ستين حزبا بأكثر من قراءة. وكان أبوه بحكم تجوله الدائم في التجارة، قد أعطى كامل الصلاحيات للفقيه الذي كان يشكل لبنسعيد رعبا حقيقيا. سيجد نفسه بعدها في فراغ بعد حفظ القرآن وتعلم الكتابة بالحروف العربية، ليتمكن من الذهاب إلى مدرسة تدرّس العلوم العربية.

توجه في بداية الأربعينات إلى مدرسة قريبة من منطقته، قضى بها سنتين، ثم بعدها انتقل إلى مدرسة أخرى تبعد عن اشتوكة وقريبة من حدود منطقة آيت باعمران. فوجد الدراسة هناك تقليدية والدروس تترجم كلها إلى اللغة الأمازيغية. كما كان يجد صعوبات في إتقان النطق باللغة العربية، إلى أن انتقلت إلى مراكش لمتابعة دراسته في مدرسة بن يوسف.

بداية مسار جديد..

في مدرسة بن يوسف بمدينة مراكش، سيبدأ مسارا جديدا، إذ فُتحت عيناه على أحداث سياسية، وعلى وقائع كان بعيدا عنها، وهناك تعرف على كبار المناضلين حينها، الذين سينخرط معهم فيما بعد في تأسيس جيش التحرير والمقاومة المسلحة.

تعرّض أيت إيدر للاعتقال أول مرة سنة 1952، عندما كان مسافرا إلى الرباط من أجل إيجاد صيغة لإيصال مقالاته إلى جريد العلم، وتزامن ذلك مع الاحتجاجات ضد اغتيال فرحات حشاد، وفي طريقه عودته سيعتقل رفقة آخرين من حزب الاستقلال.

رأى بنسعيد أن المقاومة المسلحة خيار لا محيد عنه، لينتزع المغرب استقلاله. وهكذا شارك في قيادة جيش التحرير وتكوين خلايا المقاومة، إلى أن تولى منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب، وألهمه في ذلك عملية سنطرال 1947 والمقاوم أحمد الحنصالي الذي رفع سلاحه في وجه الاستعمار لوحده.

ما بعد الاستقلال..

ما بعد الاستقلال، سيُصدم أيت إيدر كغيره من المقاومين باستعانة الحكم بـ “الخونة” لتدبير شؤون البلاد وتهميش المقاومين، وفيما بعد المطالبة بنزع سلاح المقاومة التي تمسكت باستكمال المسيرة. كاد يتعرض لمحاولة اغتيال سنة 1957 من طرف من سماهم “عناصر التخريب”.

كان أيت إيدر من بين المشاركين في تأسيس الاتحاد الوطني القوات الشعبية، وفي سنة 1960 سيتم اعتقاله بتهمة التآمر على ولي العهد، حيث تعرض للتعذيب بالكهرباء وغطس رأسه في الماء لأكثر من 15 يوما، ليقضي بعدها شهرين في السجن، وفي يوليوز 1963، سيجد نفسه مطلوبا مرة أخرى وسينتهي ذلك بحكم غيابي بالإعدام.

هرب أيت إيدر حينها إلى الجزائر، ثم سنة 1964 إلى فرنسا. ستقع بعدها مجموعة من الأحداث، ومن بينها اغتيال المهدي بنبركة، وفي سنة 1967، سيقضي أيت إيدر سنتين في مصحة نفسية، إذ كان يعاني من فقدان الذاكرة لما يحدث في الحاضر، وتسجّل بعدها ليدرس مادة التاريخ والجغرافيا بجامعة فانسين، وسيحوز على الإجازة باسم مستعار هو خالد عبد الله.

العمل في العلن..

سيعود من المنفى، سنة 1980 بعد عفو ملكي، ليبدأ العمل السياسي من جديد، وسيؤسس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي سيصبح زعيمها سنة 1983، ليعيش بعدها 23 سنة من الحياة البرلمانية. وترشح وفاز أربع مرات بتمثيل منطقته. وقال إنه اكتشف أن الممارسة البرلمانية لم تتطور، بل حصل فيها تراجع، لاسيما عندما تحولت المعارضة إلى الحكم.

ومن أهم القضايا التي كانت تشغله حينها، قضية المعتقلين السياسيين والأخبار التي تصله عن المعتقلات السرية التي تعج بها البلاد، إذ تجرأ على وضع سؤال حول معتقل “تازممارت”، الذي سيتم إغلاقه بعد ذلك سنة 1991، وقد دافع عن المعتقلين حتى في حضرة الحسن الثاني. وعندما بعث له هذا الأخير إدريس البصري لكي لا يثير قضية المعتقلين السياسيين بالبرلمان، تشبث برأيه وطرحها.

سيساهم آنذاك في نسج تحالف ما يعرف بالكتلة الديمقراطية، وحتى عندما رحلت قيادات من حزبه سنة 1997، سيعمل من جديد على توحيد تيارات اليسار، ليؤسس سنة 2002 حزب الاشتراكي الموحد، ويصبح رئيسه الشرفي.

ورغم ابتعاده النسبي عن السياسة، إلا أنه ظل منخرطا في الأحداث، وسيتم تكريمه من طرف الملك محمد السادس بوسام سنة 2015، كما سيكتب مؤلفين حول مسيرته النضالية، يؤرخ فيهما الكثير من الأحداث السياسية كما عاشها.

Comments (1)
Add Comment
  • أحمد رباص

    ما عرف بالكتلة الديمقراطية وليس ما عرف بكتلة العمل الوطني التي كانت في عهد الحماية..