ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الثامنة عشرة: محمد ڭرينة.. نجا من الزلزال وعشق فلسطين إلى أن توفي بعد اعتقاله
عندما كان الفلسطينيون ينتفضون في وجه الاحتلال ويفقدون خيرة شبابهم في معركة غير متكافئة، كانت العديد من الشعوب، خاصة العربية، تتلهف لمؤازرة الفلسطينين والوقوف إلى جانبهم. ولعل الارتباط الوجداني للمغاربة بقضية فلسطين يلخص جزءا من هذه الحكاية، لكن المؤزارة والتضامن، تحول أحيانا إلى فقدان أشخاص واعتقال آخرين حتى في المغرب البعيد جغرافيا عن الأراضي الفلسطينية.
محمد ڭرينة، ابن مدينة أكادير، كان من بين هؤلاء الذين خرجوا ذات سبعينات من القرن الماضي، ليصدح بصوته من أجل فلسطين، التي كانت عنده في مقام “القضية الوطنية”، كما كان يصدح وهو في ربيع العمر، من أجل حقوق المغاربة في العيش الكريم والمساواة وغيرها.
في نهاية سبعينات القرن الماضي، تلك السبعينات المظلمة بالأرواح التي أُزهقت تحت التعذيب وبقرون السجن التي وزعت على مئات المعتقلين، سيعتقل محمد ڭرينة ويزج به في السجن بعد تعذيب شنيع، جعله يخرج بعد أيام قليلة من اعتقاله جثة هامدة، بعدما دخله وهو في مقتبل العمر ينضح بالحياة.
كان محمد منتميا حينها للشبيبة الاتحادية، وكان من أبرز الشباب النشيط بها، كما كان متحدثا باسم تلاميذ الداخلية التي يقطن بها، شاب يافع محبوب في محيطه، ومن أساتذته بسبب تفوقه الدراسي وأخلاقه، وهو أيضا على قدر من المسؤولية،إذ يعمل من أجل مساعدة عائلته وتدبر تكاليف دراسته، بالرغم من أن أساتذته كانوا يساعدونه في شراء لوازم الدراسة أحيانا.
محمد ڭرينة نجا من موت محقق، عندما دّمر الزلزال مدينة أكادير بداية الستينات من القرن الماضي، لولا تدخل الجيران الذي أنقذه ووالدته، وهو كان يبلغ من العمر حينها سنة واحدة فقط، كُتب له عمر جديد بعد الكارثة، لكنه لم يكن عمرا مديدا، إذ سينتهي مشواره في الحياة، وهو يدرس في سلك الثانوية تخصص الهندسة المدنية.
كان محمد يخطو في مشواره بثباب رغم الكبوات التي كانت تقف أمامه، ورغم ضيق ذات اليد والفقر الذي يلجم إرادة الإنسان، كان نموذجا للتلميذ النجيب بشهادة أساتذته، لكن ذات يوم سيُنده لوالديه لمخفر الشرطة، وعند وصولهما طلبا منهما توقيع ورقة، ولم يكونا يعلمان بأنهما يوقعان على حياة ابنهما التي انتهت قبل أن تبدأ.
في عمر العشرين ربيعا، غادر محمد ڭرينة تاركا وراءه إرثا من التضحيات التي يتذكره بها من جايلوه وهو في الشبيبة الاتحادية، وهو يشارك في المهرجانات الخطابية، وهو يتزعم التلاميذ من أجل مطالب نقابية، وهو يحاور باسمهم الإدارة من أجل التنازل، وهو يكد ويشتغل طيلة اليوم من أجل توفير لقمة العيش، وهو يتزعم التظاهرات المطالبة بتحرير فلسطين وغيرها.. كل مشاهد ضائعة، ترسم ملامح لشخصية لم يكتمل نموه، شخصية اقتلعت جذورها في أول المسار.
قال عنه عبد الرحيم بوعبيد الزعيم الاتحادي، “كنت موضع إعجاب من طرف إخوانك وزملائك وأساتذتك الذين يشهدون بأخلاقك الكريمة وسلوكك المستقيم. كنت أمثولة في الجد والنشاط والوطنية والدفاع عن الطبقات المضطهدة. هذا هو ذنبك، أما ما أريد إلصاقه بك من تهم ملفقة يريدون إلصاقها بمنظمتك..”
ابن أكادير الناجي من الزلزال
ذات يوم من سنة 1959، وحيث كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ينفصل عن حزب الاستقلال ويبدأ مسيرته، سيرى محمد ڭرينة النور أول مرة بحي شعبي اسمه أغزديس بمدينة أكادير، داخل وسط فقير. سينشأ داخل أسرة مكونة إضافة إلى الأب والأم، من ثلاث بنات وثلاثة ذكور وكان محمد هو الولد البكر في العائلة.
بعد عام من ولادته، سيعصف زلزال دمر نصف مدينة أكادير ومات فيه الآلاف من الناس، في فبراير من 1960، لكنه نجا بمساعدة الجيران، لتكتب له الحياة من جديد. وفي نفس منطقته بحي أنزا شمال مدينة أكادير، سيدخل محمد الكُتاب لتعلم القرآن الكريم، ثم سيدخل بعدها إلى المدرسة الابتدائية المختار السوسي بأنزا، انتقل فيما بعد إلى ثانوية ولي العهد بأكادير.
كانت المسافة من حي أنزا إلى الثانوية بأكادير حوالي 8 كلم، ما جعله ابتداء من سنة 1974 يقضي العطلة الدراسية في الاشتغال في مختلف معامل أنزا، خصوصا معامل تعليب السمك، من أجل تحمل قسط من مسؤولية توفير المصاريف رغم صغر سنه، وكان يشتغل من الصباح إلى وقت متأخر من الليل، وذلك مقابل أجر زهيد، كما اشتغل حمالا بالميناء و في معامل الإسمنت.
وهو في القسم الرابع من التعليم الثانوي، اضطر إلى النزول بدار الأطفال الخيرية بأكادير، وبعد نهاية السنة الدراسية (1976 – 1977) توفق في دراسته خصوصا في المواد العلمية وتم توجيهه إلى شعبة الهندسة المدنية، حيث انتقل إلى ثانوية الخوارزمي بمدينة الدارالبيضاء.
حظي محمد آنذاك بثقة زملائه الداخليين في الثانوية، فأصبح المتحدث باسمهم، وحصل في الدورة الأولى من السنة الدراسية 78ـ79 على تشجيعات مع تنويه خاص لنتائجه الدراسية وحسن سيرته وسلوكه. وإلى جانب تفوقه في دراسته، كان أيضا عضوا نشيطا في الشبيبة الاتحادية. ساهم أثناء الحملة الانتخابية التشريعية في نشر مبادئ واختيارات الاتحاد الاشتراكي، وتعرض نتيجة ذلك لاعتداء بتاريخ 29 ماي 1977.
أثناء تصاعد الاحتجاجات بفلسطين، ومع أشكال التعاطف بالمغرب، تناول الكلمة باسم الشبيبة الاتحادية في التجمع العام الذي انعقد بمقر الكتابة الإقليمية بأكادير بمناسبة يوم الأرض 30 مارس 1979، إذ شارك في ذكرى إحياء يوم الأرض الذي دعت إليه المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تضامنا مع الشعب الفلسطيني.
الاعتقال والتعذيب
بعد مغادرته أكادير اتجاه البيضاء، سيلقى عليه القبض بتاريخ 17 أبريل 1979 من داخل ثانوية الخوارزمي، حيث دخلت قوات الأمن إلى داخلية الثانوية منتهكة حرمة المؤسسة، بعد الأشكال التي كان يقوم بها التلاميذ تضامنا مع فلسطين، سيتعرض محمد كرينة الشاب اليافع حينها للتعذيب والاستنطاق بمركز الشرطة، وكانت قد اعتقلت قبله أخته فاطمة كرينة يوم 5 أبريل لتدلي بمعلومات حوله وحول علاقته بالتنظيم وتحركاته.
وفي يوم 23 أبريل من سنة 1979، بعد ستة أيام من التعذيب، تم تقديمه للمحاكمة، وكانت علامات الإنهاك بادية عليه، طالب الدفاع بعرضه على الطبيب لإجراء الفحص، إلا أن النيابة العامة واجهت الطلب بالرفض وضمه لطلب الخبرة إلى حين البت في جوهر القضية، التي أجلتها المحكمة إلى غاية 30 أبريل 1979.
لكن جسد كرينة المنهك لم يستطيع الصمود أكثر حتى بلوغ موعد المحاكمة، إذ سيلفظ آخر أنفاسه بتاريخ 24 أبريل 1979، من جراء آثار التعذيب، ليتم طي ملفه بدون أي تحقيق، لتظل حقيقة مقتل محمد كرينة بدون توضيح.
غادر محمد كرينة الحياة، وهو في مقتبل العمر، وكان شابا مشهودا له بالاستقامة والسلوك الجيد والتفوق الدراسي، لكن مشواره النضالي وقف عقبة أمام إكماله مسار حياته وتحقيق طموحات عائلته الصغيرة، فغادر قبل أن يحقق حلمه في أن يصبح مهندسا، وفي أن يرى فلسطين حرة، ويرى بلده بدون “طبقات”..