ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة السابعة عشرة: عبد الحق شباظة.. يساري طُرد من الجامعة واعتقل و”استشهد” بالسجن
يعد عبد الحق شباظة، من بين اليساريين الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة في السجون، ومن بين الرموز التي خاضت في صراعها مع الدولة خطوة “الإضراب اللامحدود عن الطعام”، مع ما يعنيه ذلك من مواجهة مفتوحة أمام الموت، بل وسير مقصود وعلني تجاهه، بعدما يكون الظلم والاضطهاد قد فعل فعلته في النفوس والأبدان.
دخل عبد الحق شباظة وهو بالسجن في خطوته تلك إلى أن فقد جسده المقاومة، وأصبح فريسة سهلة أمام الموت، ليرحل بذلك عن درب الأحياء، ويخلد اسمه مع “الشهداء الأحياء”، رحل تاركا وراءه إرثا يتذركه “الرفاق”، وترك اسما تتغنى به بضع أغاني طلابية، وترك أما اسمها “رقية” بقيت تذرف الدموع كلما حضرها طيف ذكراه.
كان عبد الحق شباطة، كما وصفه المعطي منجب، رجلا مقتدرا وذا شعور قوي بالمسؤولية، رغم أنه توفي وعمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين، كان مثقفا متخصصا في الأدب العربي، ولكنه لا يكتفي بقراءة نصوص الإبداع والرواية والنقد، بل كان قارئا نهما لكتب التاريخ والفلسفة والسياسة ذات المنحى اليساري، كما كان عاشقا لفلسطين.
وقال عنه رفاقه القاعديين، إنه كان قائدا ملهما، لا يعرف الخوف ولا الاستسلام، ويرعب أعداءه بشخصيته المتميزة. كانت أول مرة يبرز فيها شباظة بالساحة الجامعية في أحد الأسابيع الثقافية، إذ ظهر ويصرخ بترديد الشعارات الثورية، قد كان قادما من ما يعرف ب”الحركة التلاميذية” مناضلا نشيطا ومستعدا للتحرك والعطاء في سبيل أفكاره.
شعوره بالمسؤولية، جعله يبحث عن شغل حتى وهو مازال في أيام الدراسة، ومن غارئب الصدف أنه كان يعمل في صناعة أقفاص للطيور ويبيعها، وعن هذه المفارقة حكى لمنجب الذي كان قريبا منه «إني أقضي نهاري في مراوغة الشرطة حتى لا تضعني في القفص الإسمنتي وأنا أصنع للطيور البريئة أقفاصا من حديد، ولكن كما يقول «الرفيق» أبوذر الغفاري: “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه”.
كان عبد الحق شباظة يتيم الأب، ومن وسط أسري فقير، فكان وهو يتابع دراسته ويناضل في النقابة الطلابية، يساعد بشكل كبير والدته في إعالة إخوته الصغار وضمان لقمة العيش. تتذكره أمه في الأنشطة المنظمة بمناسبة تخليد ذكراه قائلة “إن أردت أن أحكي لكم عن الشهيد عبد الحق فإني سأبكي، لكني لا أريد البكاء.. أريد أن أبقى صامدة.. هذا النظام دمرنا لكني أريد أن أبقى صامدة”.
شباظة شاب متميز، بدأت مسيرته مع النضال منذ سن مبكرة، إذ شارك في التظاهرات الرافضة لقدوم شاه إيران إلى المغرب سنة 1979، وهو مازال تلميذا، كما شارك في انتفاضة “الكوميرا” يونيو 1981، وشارك كذلك في انتفاضة 1984، وساهم في تأطير نضالات الطلبة وغيرها، لكنه سيغادر هو الآخر قبل أن يتجاوز الـ 28 سنة من عمره. غادر منهكا بعدما كان شابا مقبلا على الحياة ينشد الكرامة والعدالة الاجتماعية للجميع..
يحكي المعطي منجب أن شباظة “تعرض لسوء المعاملة على يد البوليس ثم عُذب في السجن وهو يقضي فترة محكوميته. اعتدى عليه مرة حارسان بتحريض من مدير السجن “السادي”، لكنه هزمهما إذ طرحهما أرضا. لقد كان عبد الحق شابا هادئا ومسالما، ولكن كانت له نفس ترفض الظلم وتناكف العدوان. كان كذلك بالغ الشجاعة ورياضيا من الطراز الأول، حيث كان يتوفر على الحزام الأسود في فن الكاراتي”.
من درب الحرية إلى الرباط
في يوم من أيام سنة1961، ومن أسرة فقيرة، ولد عبد الحق شباظة في درب الحرية بالحي الحسني بالدار البيضاء، وهو الحي الذي ترعرع فيه، وتلقى فيه تعليمه الابتدائي بحجرات مدرسة “ابن حمديس” الابتدائية، ليلتحق بعدها بإعدادية “درب الجديد”، ومن ثم إلى ثانوية “ابن الهيتم”.
وفي سنة 1980، سيدخل عبد الحق مرحلة جديدة من حياته الدراسية والنضالية، فبعد حصوله على شهادة البكالوريا موسم 1979/1980 سينتقل من الدار البيضاء إلى مدينة الرباط لمتابعة دراسته، فكان الاختيار على شعبة الأدب العربي بكلية الآداب بالرباط.
بولوجه الجامعة، وحيث إن المرحلة كانت تعرف نضالات كبيرة، خاصة تلك التي تخوضها الحركة الطلابية، سينخرط الشاب عبد الحق في تلك النضالات بحماسية واندفاع كبير، وقد عرفه الطلاب في تلك المرحلة بديناميته النضالية الكبيرة، وستنتقل به تجربته عبر العديد من الدروب داخل الحركة الطلابية.
المسار السياسي
بدأ تعاطفه الفكري أولا مع ما يعرف في أدبيات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بمجموعة “بنيس”، وهي من ضمن الطروحات التي ظهرت في الساحة الجامعية أوائل الثمانينات، لكنه سرعان ما سيبدّل الوجهة بعد نقاشات إلى الانخراط في صفوف الطلبة القاعديين، الذين كانوا يمثلون التصور الراديكالي من داخل “أوطم” آنذاك.
وبحماسته “الثورية” انخرط شباظة في العمل التنظيمي، وتبوأ العديد من المسؤوليات التنظيمية في مساره السياسي من داخل نقابة الطلبة. وكان له دور بارز في خلق العديد من اللجان في مختلف القطاعات الجماهيرية في ظرفية كانت متسمة بتشديد الاعتقالات على المعارضين، وكان شباظة حينها لا يقصر مسؤوليته في مجلس الطلبة بكلية الآداب فقط، بل أشرف كما حكى رفاقه على حلقات التثقيف داخليا في صفوف القاعديين لترسيخ الفكر الماركسي اللينيني في صفوفهم.
وساهم خلال سنوات دراسته، إلى جانب رفاقه في خلق العديد من الجمعيات، إضافة إلى بث ونشر مجلات ومنشورات سرية وعلنية، إلى جانب الملصقات الحائطية والكتابة على الأسوار بشعارات منددة بسياسات الدولة، كما أنه كان معروفا بقدرته التنظيمية والتأطيرية للتظاهرات ومختلف الأشكال الاحتجاجية.
ومن أبرز الأحداث السياسية التي شارك فيها، كانت انتفاضة يونيو 1981 بالدار البيضاء، والعديد من المدن الأخرى، بالإضافة إلى ما يعرف بانتفاضة 1984، التي انطلقت من مراكش وسقط فيها الطالبين القاعديين مصطفى بلهواري ومولاي بوبكر الدريدي بإضرابات عن الطعام، ما جعل شباظة يزداد حقدا على سياسة الدولة.
الطرد والاعتقال
في السنة نفسها التي شارك فيها في انتفاضة 1984، ستصدر في حقه مذكرة بحث وطني، لكن استطاع تفادي الاعتقال، من خلال تحركاته السرية وقدرته على مواصلة الإفلات.
في سنة 1986، ستقرر الكلية طرده ملفقة له تهمة “الشغب”، لكنه ورغم ذلك لم ينفصل عن محيط الجامعة، والأكثر من ذلك استمر في تحمل المسؤولية من داخل فصيل القاعديين الذي كان ينتمي إليه طيلة السنة، إلى أن فرضت عليه ظروف الحياة الانتقال للبحث عن عمل بعدما أغلق في وجهه باب الجامعة.
وفي سنة 1987، سيقرر العودة إلى مسقط رأسه بمدينة الدار البيضاء، ليجد واقعا قاسيا في انتظاره، فاضطر إلى البحث عن عمل، واتجه ليعمل في ميناء الدار البيضاء وسط عمال الموانئ، واستمر على هذه الحال إلى غاية يوم 18 أكتوبر 1988، حيث ألقي عليه القبض بالميناء من طرف الشرطة وهو يحاول الهجرة على متن باخرة إلى فرنسا ليهرب من بطش الواقع الذي وجد نفسه فيه.
وبمجرد اعتقاله، سيتم أخذه لمنزل والدته، ومن ثمة إلى مخفر الشرطة، حيث ستستحضر الشرطة الملفات السابقة، فتعرّض آنذاك للتعذيب أثناء التحقيق وفي ظروف قاسية، كما روى رفاقه الذين سيلتقي بهم في سجن “لعلو” بالرباط، وسيحكم عليه بعدها بسنة سجنا نافذا.
عندما صدر في حقه الحكم، تقول أمه “ضحك ابني عبد الحق وقال: هذه مجرد مسرحية أنا محكوم منذ مدة”. بعدها بمدة دخل شباظة إلى جانب معتقلين آخرين في إضراب لا محدود عن الطعام، ونقل إلى المستشفى.
فقد دخل في إضرابه عن الطعام يوم 17 يونيو 1989 وتوفي يوم 19 غشت من نفس السنة، بعد ما يناهز 65 يوما من الإضراب اللامحدود عن الطعام. ويقول المعطي منجيب، إن مدير السجن منع عليه الماء ليضغط عليه من أجل إيقاف الإضراب فساهم بذلك في إضعافه أكثر.
تقول أمه عندما زارته في المستشفى أنه خاطبها قائلا “أمي إذا وجدتني توفيت في هذا المستشفى كسريه”، وتقول أمه ” عندما ذهبت لرؤيته في المستشفى مع العائلات، رفض الكومندار (مدير السجن) وقال لي أنت ليس لديك تصريح ولن أعطيه لك”، وتضيف في شهادتها ” بصراحة إن ما عشناه نحن العائلات لا يتصور، أنا لن أنسى ولدي وكل الناس الذين ضاعوا لا يمكن نسيانهم. إن الجرح عميق. أخذوا مني جواز السفر، ومنعوا ابني من العمل وولدي الآخر منعوه من الدراسة”.