ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الثالثة عشرة: شيخ العرب.. متمرد أرهق المخابرات وتحول إلى “أسطورة”
لا تحتاج قصة “شيخ العرب” أو أحمد أكوليز إلى لمسات إضافية لتكتمل معالم “الأسطورة” فيها، إذ إنها لم تكن قصة عادية لرجل قضى نحبه، بل كانت قصة رجل متمرد حمل السلاح ورفض وضعه إلى حين وفاته.. هي قصة يتداخل فيها الواقع والخيال، وتحركت دولة بكامل أجهزتها لتضع نلها نقطة النهاية بأي ثمن..
أحمد أكوليز المعروف بـ “شيخ العرب”، استطاع رفقة معاونيه أن يشغل الدولة لسنين، إذ كان بإمكانه أن يختفي عن الأنظار وقتما أراد وأن يظهر في المكان والزمن الذي أراد، رغم أن صوره كانت تملأ الشوارع، ورغم أن رصد المكافآت لتقديم معلومات عنه، حتى وصل الأمر بأجهزة الأمن أن عرضت صوره في قاعات السينما لحث الناس على تقديم معلومات عنه..
لم يكن “شيخ العرب” معروفا كثيرا خلال مرحلة الاستعمار، فهو لم يكن قائدا سياسيا ولا عسكريا، بل كان مقاوما بجيش التحرير، حمل السلاح في وجه الاحتلال، ونسّق بين المناضلين عبر المدن ونفّذ العمليات العسكرية، وعندما جاء الاستقلال كانا أكوليز ممن رفضوا وضع السلاح لاستكمال مسيرة التحرير..
كانت الأسباب التي دفعته إلى خيار التمرد كثيرة، فهو الذي قاوم أصبح يشاهد الخونة والعملاء وهم يتقلدون المناصب، بينما يتم اعتقال من حاربوا الاستعمار وتهميش أغلبهم، في حين استفاد من لم يستحقوا الامتيازات، لهذا كان يطرح سؤاله كما حكى المقربون منه “ألهذا حاربنا الاستعمار؟”، وكان هذا السؤال يطرح بحرقة من رجل تنكر له وطنه، فاختار أن يتمرد.
“شيخ العرب” لم يكن رجل سياسة أو مفاوضات ليحصن لنفسه مكاسب ما بعد الاستقلال، وهو أيضا لم يكن منتميا لحزب سياسي يوفر له الغطاء ويصنع منه رمزا، لكن علاقاته كانت متشعبة، واستطاع أن يحيط نفسه بهالة من الوقار والاحترام وسط من عرفوه عن قرب، بسبب شجاعته وإقدامه ورفضه الظلم، وكان ممن راكموا علاقات كبيرة مع التجار وغيرهم، مكنته من التخفي وإيجاد مصادر التمويل..
انمحت سيرة “شيخ العرب” من الروايات الرسمية، ولا يُعثر لها على أثر في كتب التاريخ، لكن القصة بقيت مخلدة في أرشيف مديريات الأمن، وفي حكايات البسطاء التي مجدته إلى درجة أن هناك من كان يرى فيه البطل الخارق والمخلص، وزاده البحث المضني الذي كانت تقوم به السلطات للقبض عليه هالة كذلك، فاستمرت قصته رغم الرغبة الرسمية في إطفائها..
على الأقدام من طاطا إلى الرباط
في سنة 1927 بدوار أكوليز بقبيلة إيسافن السوسية الواقعة بإقليم طاطا جنوب شرق المغرب، ولد أحمد (حماد) بن محمد بن إبراهيم بوشلاكن، المعروف أيضا باسم أحمد أكوليز، والذي اشتهر بلقب “شيخ العرب” أو “الحاج”.
تحكي الروايات، أنه سافر سيرا على الأقدام مسافة تزيد عن أربع مائة وتسعين كيلومترا، قاصدا مدينة الرباط ليساعد والده في محل التجارة، وهو لم يتجاوز سن الثانية عشر بعد. عمل احماد بعد ذلك في مدرسة كسوس طباخا ثم حارسا عاما في المرحلة الأولى من نشاطه النضالي الممتدة على مدى عقد من الزمن (بين سنتي 1944 و1954).
وبسبب نشاطه في صفوف المقاومة، ألقت عليه سلطات الاستعمار القبض في سنة 1951. وكانت العقوبة أن يعاود قطع المسافةنفسها التي قطعها منذ اثني عشر عاما سيرا على الأقدام، مقيد اليدين مكبل الرجلين، في رحلة العودة لمسقط الرأس بدوار أكوليز، ليكون عبرة لكل من اختار أن يقاوم الاستعمار..
سر لقب “شيخ العرب”
سيختار أحمد العودة من جديد إلى صفوف المقاومة المسلحة، ليعتقل مرة أخرى في صيف عام 1954، بتهمة حمل السلاح وتنظيم محاولات اغتيال. وحتى عندما تم تعيين أحمد رضى كديرة محاميا له رفض ذلك، ليتم إيداعه سجن القنيطرة المركزي. وفي فترة السجن هاته، سيكتسب أحمد أكوليز لقب شيخ العرب.
الذين عايشوه قالوا إن سبب اللقب كان أن أحمد رأى كيف تتعامل إدارة السجن بمحسوبية مع السجناء، إذ إن هناك من يتمتع بالامتيازات والأكل، فقرر الإضراب عن الطعام حتى يستفيد الجميع، وهنا برزت مكانته في أوساط السجناء كبطل، فقرروا إطلاق لقب “شيخ الإسلام” بسبب تدينه وورعه لكن رفض، فاستبدلوا اللقب بـ “شيخ العرب”.
الهروب من السجن..
بعد تصاعد عملية الكفاح واضطرار السلطات الاستعمارية إلى إيجاد صيغة للاستقلال، وبعد مفاوضات إكس ليبان وعودة الملك محمد الخامس من المنفى وبداية الاستقلال، استفاد السجناء المحظوظون من أبناء المدن من إطلاق السراح، بينما ظل “شيخ العرب” محبوسا مع آخرين، رغم أن الهدف الذي اعتقل من أجله قد تحقق، ومع توالي الأشهر نفذ صبره فنظم عملية هروب ناجحة من السجن في ماي 1956، لتنطلق قصته مع مغرب الاستقلال.
ورغم أن رواية البوليس تقول إن سبب تمرده كان لأنه لم ينل وظيفة رجل أمن ما بعد الاستقلال، إلا أن مصادر كثيرة من المقربين منه الذين تحدثوا بعد سنين من وفاته، قالوا إنه كان متذمرا رافضا لما آل إليه وضع البلاد بعد شبه – الاستقلال وخيانة الساسة وعلى رأسهم حزب الاستقلال الذي قبل بتنازلات خلال مفاوضات إيكس ليبان.
فقدان الأمل في “مغرب الاستقلال”
ومما زاده تمردا كذلك، هو رؤيته حزب الاستقلال وهو يتحالف مع المؤسسة الملكية من أجل نزع سلاح جيش التحرير، وإقبار المقاومة المسلحة التي رفضت وضع السلاح حتى استكمال مسيرة التحرير، إذ تورط الاستقلال في اغتيال كبار المقاومين، ومنهم عباس المسعدي وأحمد الطويل وغيرهما كثيرون. ويروي مومن الديوري في كتابه حقائق مغربية في شهادة مؤثرة عن صديقه شيخ العرب، أنه رآه يبكي مرة واحدة عندما شاهد علال الفاسي في استقبال بالقصر الملكي كان ينقله التلفزيون المغربي وهو يركع للملك الراحل الحسن الثاني ليقبل يده.
أمام إحساس الخيانة، وبداية انتشار الأفكار بأن المغرب لم يستقل بعد، وأنه “استقلال شكلي”، وبفعل تنصيب “الخونة” في المناصب ورؤيته الجيش الملكي يتكون على يد المستعمر، ويقضي على المقاومة، سيقرر “شيخ العرب” الانخراط في جيش التحرير الوطني بالجنوب في سنة 1957، بغية مواصلة الكفاح ضد الاستعمار واسترجاع الأقاليم الجنوبية. جاء بعدها ردع ما عرف بانتفاضة الريف (1958-1959) ليرسخ الاعتقاد عند شيخ العرب وغيره، بأن الاستقلال مجرد وهم، وأن المرحلة لا تختلف عن التي قبلها عندما كان الاستعمار حاكما.
سطوع نجم “شيخ العرب”
هنا سيسطع نجم شيخ العرب أكثر، إذ بدأ في تنفيذ العمليات ضد من اعتبرهم خونة، وظل يساند من يحسون بالظلم، وكان يقوم بمهام مكلف بها من طرف القيادة، وأخرى كان يجتهد فيها بنفسه دون علم القيادة التي لم تكن تجادله بحكم مكانته، فاستطاع أن ينسج بذلك حكايات تتناقلها الألسن عن مهارته في الهروب، وخداع رجال الشرطة والانتقام من أعدائه، لتزيد من قوة أسطورته.
كان “شيخ العرب” رجلا خارجا عن القانون في نظر السلطة، وكان بالمقابل بطلا شعبيا في أعين الشباب يتفاخرون بحكاياته التي كانت تصل سريعا. تفاقمت بسرعة سوابقه بتهم السرقة الموصوفة والإرهاب وغيرها، ليقوم في سنة 1959 باغتيال رجلين من جهاز الأمن، بعدما اشتكى له أهالي منطقة سوس من بطشهما وتعسفهما (وكان أحدهما قاتل علال بن عبد الله، الصباغ البسيط الذي حاول اغتيال ابن عرفة في 11 شتنبر 1953)، كما أصدر حكما بالإعدام في محكمة شعبية بحق ضابطين من جيش التحرير، اتهما بسلسلة من جرائم الاغتصاب في الجنوب. وهنا بدأت قطيعته مع جيش التحرير، بعد أن تزايدت انتقاداته اللاذعة لزعمائه. فأسس ما عرف بالجبهة المسلحة من أجل الجمهورية المغربية.
بناء على التهم السابقة، أصدرت محكمة تارودانت في حقه حكما غيابيا بالإعدام، ما اضطره إلى دخول حياة السرية ليعيش مراقبا ومبحوثا عنه من طرف المخابرات وفرق البوليس التي ضاعفت جهودها للقبض عليه، إلا أنه سيستمر في نشاطه رغم ذلك، وفي سنة 1962، سيجتمع شيخ العرب بالمهدي بنبركة في لقاء تاريخي نظمه صديقه مومن الديوري، بعد أن نجح في إقناعه بأن التحالف مع الزعيم اليساري، من شأنه أن يعرف بحركات الكفاح المسلح خارج الحدود المغربية، ويمنحها تأشيرة الاعتراف الدولي في إطار أنشطة مؤتمر القارات الثلاث.
وفي سنة 1963، سيتهم القصر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وجيش التحرير في الجنوب، بمحاولة اغتيال الملك والتآمر على الحكم، فسجن الكثيرون ووزعت أحكام بالإعدام، وكان شيخ العرب ممن سيحكم عليهم غيابيا بالإعدام بمعية بنبركة في 14 مارس 1964.
سيلجأ شيخ العرب إلى الفرار إلى الجزائر بغية تلقي الدعم العسكري، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن، وتتغير معطيات السياسة المغربية الجزائرية بعد انتهاء حرب الرمال، بتوقيع السلام بين الحسن الثاني وابن بلة. وينزل الرئيس الجزائري عند رغبة رفاقه اليساريين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين سعوا جاهدين لإقناعه بأن يحتفظ بشيخ العرب بحجة أن عودته للمغرب ستشكل خطرا حقيقيا على حياة بعض أعضاء الحزب.
العودة من الجزائر والاغتيال..
في أبريل 1964، سيعود شيخ العرب إلى المغرب سرا عن طريق ولاية بني ادرار الحدودية، برفقة عمر ناصر الفرشي، ليشرع في تنظيم خلايا مسلحة من جديد، لكنه سيتعرض لوشاية من أحد المقربين منه، وتقول روايات بأن الواشي أخبر أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين قدموا معلومات إلى الأجهزة لبناء علاقات جيدة مع القصر، فيما تفيد معلومات أخرى أن الخائن كان مدسوسا من طرف الأمن بين صفوف رجاله، وهو من أوصل معلومات عن مكان تواجد أحمد أكوليز.
في 7 غشت 1964، سيطوق رجال الأمن البيت الذي كان يحتمي فيه شيخ العرب ورفاقَه، فيحدث تبادل لإطلاق النار بالأسلحة. يردى على إثره مبارك بوشوا قتيلا. يصاب إبراهيم مسليل الحلاوي بجروح بليغة. بينما اختار شيخ العرب الموت “بالرصاصة الأخيرة” التي لطالما حدث رفاقه عنها.
ورغم نجاح أوفقير في القضاء عليه، إلا أن حلمه بأن يطوف ربوع المملكة بمعية شيخ العرب في قفص حديدي تبدد، والتحقت الخلايا التي أقامها شيخ العرب بالتنظيم السري الموازي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنهم من سينال نفس مصير الإعدام بعد ذلك.