ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الثانية عشرة: محمد بوكرين.. اليساري “معتقل الملوك الثلاثة”
أطلق لقب “معتقل الملوك الثلاثة” على اليساري محمد بوكرين، وهو لقب يختزل المسار السياسي للرجل الذي عاش الاعتقالات إبان مغرب الاستقلال، وفي سنوات الجمر والرصاص ولم يسلم منها في العهد الجديد، وكان قد بلغ من العمر عتيا.
بوكرين ممن ظلوا ثابتين على مواقفهم السياسية حتى الرمق الأخير، وإن تقلبت طرق تصريفها بين العمل المسلح والنضال النقابي والحقوقي والسياسي، وذلك اختزالا لتشبعه بما اعتبره “فكر الخلاص” و”النظرية العلمية” المتمثلة في الاشتراكية، التي سعى من خلالها إلى الدفاع عن مغرب منشود، حيث الحقوق والحريات للجميع.
بسبب مواقفه، طُرد محمد بوكرين ابن المغرب “غير النافع” من الدراسة وطرد بعدها من العمل وطرد حتى من الحزب الذي ناضل فيه، وعاش زاهدا في الحياة مناضلا بعيدا عن الأضواء ومحبا للإنسانية، فخابر المعتقلات والتعذيب في مخافر زمن الرصاص، وقضى أزيد من 16 سنة من الاعتقالات متفرقة على نصف قرن من الزمن، فزاده ذلك وضوحا في الرؤية وإيمانا بالمشروع بحسب رفاقه..
اعتقل بوكرين خلال فترات حكم الملوك الثلاثة من عهد محمد الخامس إلى الحسن الثاني ثم محمد السادس، بأرضيات مختلفة وفي سياقات متباينة، يوحدها ويجمع بينها رفضه الظلم وعدم تقبله العمل ضمن الخطوط الحمراء، وهو ما جعله يُرفض إلى جانب آخرين حتى من الحزب الذي ناضل فيه لمدة غير قصيرة؛ حزب المهدي بنبركة وعمر بن جلون وغيرهم.
من بني ملال إلى المقاومة والنضال..
بقرية تاكزيرت بإقليم بني ملال بالأطلس المتوسط، وفي يوم 4 نونبر 1935 ولد محمد بوكرين، في حقبة مظلمة حينما كان الاستعمار الفرنسي يمارس بطشه على المغاربة، ويسلب الأرزاق والثروات. التحق بوكرين بمدينة القصيبة المجاورة، وباشر دراسته بمدرسة “موحى أوسعيد” قبل أن ينتقل إلى أزرو لإتمام دراسته بثانوية طارق بن زياد.
غير أن نشاطه الوطني والسياسي ضد الاستعمار الفرنسي، سيضع حدا لمساره الدراسي خلال هذه المرحلة، إذ تم فصله عن الدراسة من المؤسسة التي كان يدرس بها.
في سنة 1950 سيلتحق محمد بوكرين بحزب الاستقلال، وهو التعبير السياسي الذي كلن يستقبل الشباب الرافض حينها، ثم انخرط في خلايا المقاومة المسلحة في إطار “المنظمة السرية” في 1953، والتي كان من قادتها محمد الزرقطوني، وساهم وقتها في إمداد جيش التحرير بالأسلحة والمؤونة بعد تأسيسه في أكتوبر 1955.
بعد نيل المغرب استقلاله عن فرنسا بعد مفاوضات “إكس ليبان”، سيستمر بوكرين في النضال مع حزب الاستقلال، إلى أن استفحل الصراع داخله وتأسس بعدها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي كان تيارا راديكاليا آنذاك، ففضل بوكرين الانخراط فيه، لانسجام مواقفه مع الأفكار الثورية التي كان يحملها.
مسيرة الاعتقالات..
يقول بوكرين في أحد حواراته، إن الدولة في الستينات كانت قد حررت لائحة بأسماء المعارضين؛ وهي لائحة سوداء تضم 400 اسما، فكان التخطيط من الجناح الراديكالي للرد على الدولة، إذ خططوا للقيام بانتفاضة مسلحة في مارس من سنة 1960 تشمل بقع مختلفة، لكن ما سمّاه بوكرين “الخذلان” جعلها تنحصر في بني ملال، مضيفا أن اللائحة كانت جاهزة سواء كانت الأحداث أم لم تكن.
وفي 17 مارس 1960 على خلفية اغتيال عميد شرطة، كان اسم محمد بوكرين من المطلوبين، بينما نفى علاقته بذلك، إذ صرح أنه كان في مهمة للاستيلاء على مستودع للأسلحة، قبل أن يفشل في ذلك بعد اعتقاله، ليقضى مدة الاعتقال موزعة على سجون بني ملال واغبيلة بالدار البيضاء، فسجن لعلو بالرباط ثم السجن المركزي بالقنيطرة، إلى أن أُطلق سراحه يوم 30 دجنبر 1966، حيث تمت تبرئته من التهم الموجهة له.
سيستمر آنذاك في النضال النقابي في قطاع السكر، وكان ينتمي للجناح السياسي للحزب واللجنة العمالية الوطنية بقيادة عمر بنجلون، وسيأتي اعتقاله مرة أخرى سنة 1973 إلى جانب 34 آخرين بعد أحداث مولاي بوعزة، حيث حكم عليه بثلاث سنوات بتهم تخريب وتقديم مأوى للمتمردين وتزويدهم بالخرائط العسكرية وتسهيل التواصل بينهم.
سنة 1978، وعلى الرغم من مؤاخذاته على المسار الذي ذهب فيه الحزب، سيلتحق بحزب الاتحاد الاشتراكي، وانتخب عضوا للجنته الإدارية في السنة نفسها، كما كان من المؤسسين للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كما ساهم بعد ذلك في تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان سنة 1979.
سيعتقل بوكرين سنة 1981 بعد دخوله مقر حزب الاتحاد الاشتراكي بالفقيه بن صالح، في وقت قامت الدولة بتشميعه، بسبب “نسيان القائمين على المقر تعليق صورة الملك في المقر في عيد العرش”. حكم عليه بسنة سجنا قضاها كاملة قبل أن يخرج من جديد.
34 للبرلمان و34 للسجن..!
بعد انشقاق حصل في حزب “الاتحاد الاشتراكي” في ما كان يعتبره بوكرين تصفية للخط التصحيحي في الحزب، اعتقل محمد بوكرين من جديد سنة 1983 إلى جانب أحمد بنجلون وغيره، وذلك بعد 15 يوما فقط من خروجه من السجن، حيث اتهم بالهجوم على أملاك الغير، في إشارة إلى مقر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات.
يعلق بوكرين على تلك الاعتقالات في حوار له بالقول: “الغريب في الأمر أن الاتحاد الاشتراكي آنذاك حصل على 34 مقعد في البرلمان كجزاء له، كنا في الحزب نفسه، فقام المخزن بإرسال 34 إلى السجن و34 آخرين إلى السجن!”.
بعد ذلك سيخرج الجناح الراديكالي، وسينشئ حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي، الذي كان بوكرين من مؤسسيه، وظل الحزب معارضا المشاركة في الانتخابات، وداعيا إلى مقاطعتها سنين طويلة، قبل أن يقدم على المشاركة سنة 2007.
يوم 6 يونيو 2007، وبعد مشاركته في وفقة احتجاجية يوم 1 ماي لمساندة المعطلين بمدينة بني ملال، اعتقل محمد بوكرين وعمره يناهز 71 سنة، بتهمة “المس بالمقدسات”، حكم على بوكرين ابتدائيا بسنة سجنا، قبل أن تضاعف في المرحلة الاستئنافية إلى ثلاث سنوات. لم يكمل محمد بوكرين فترته السجنية، بل خرج بعفو ملكي في أبريل 2008، خصوصا أن حالته الصحية كانت قد تدهورت.
بوكرين ممن ظلوا متشبثين بمواقفهم، إلى حين وفاته يوم 5 أبريل 2010، وكان ممن رفضوا الاستفادة من تعويضات هيئة الإنصاف وللمصالحة. وحتى عندما حكم عليه سنة 2007، رفض استئناف الحكم، وعندما سئل عن السبب أجاب “القضاء المغربي غير مستقل، ولهذا السبب لا أثق فيه..ورفضت استئناف الحكم، لأن الأمر ليس قانونيا، حتى نناقش هل هناك جريمة تستحق العقاب أم لا.. المسألة سياسية بامتياز..”.