ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الحادية عشرة: المهدي بنبركة.. جثة بدون قبر و”أسطورة” عابرة للعصور والأجيال
بقيت جثة المهدي بنبركة علامة استفهام كبرى، في تاريخ حركة التحرر الوطني عامة، وفي تاريخ المغرب خاصة. قضية المهدي التي تشابكت فيها الخيوط وتعددت فيها الجهات المتهمة داخليا وخارجيا، إلى درجة أن تحولت قضيته من جريمة اغتيال معارض سياسي، إلى جريمة اغتيال “أسطورة” تتداولها الألسن في الخفاء، وتجاهر بها العائلة وبعض الرفاق القدامى في المحاكم، وتخفيه الأيدي في ملفات التحقيق..
جثة المهدي بن بركة استمرت في مشرحة التحقيق أزيد من نصف قرن، والنذر القليل من الحقائق التي انجلت فيها ظهرت في فترات زمنية متباينة، لكن لم يعرف بعد مكان دفن المهدي، إن كان دُفِن، ويُجهل مصيره، فقد تحولت جثته إلى شبح يطارد جلاديه على مر الحقب، وانتقلت جثته إلى التواجد في كل مكان وفي اللامكان.
وهكذا يكون قدر الزعماء الكبار الذين لم يستكينوا إلى قول “نعم” واختاروا أن يقولوا “لا” عندما ادعت الضرورة ذلك، وأن يكونوا في مقدمة المسيرة، مسيرة بناء المستقبل الذي يستحقه الشعب، وهكذا كان المهدي محملا بأسئلة مرهقة، ومصدرا للأجوبة عن واقع وجب تغييره إلى الأرقى والأفضل.
المهدي من الصنف الذي لم يقدر الاستعمار على لجمه، ولم تردعه محاولة الاغتيال، ولم تنقص من عزيمته سنوات السجن، ولم تُخفه تلك الهالة التي أحاطت بها “الإمبريالية” نفسها، فكان مقاوما للاستعمار ببلده وفي كل البلدان، وظل مؤمنا حتى آخر لحظات عمره، أن قدر تلك الشعوب التي جعلوها تتذيل الترتيب، هو أن تنهض وتأخذ بزمام مصيرها، وتنفض أتربة العبودية والاستغلال من عليها، فلم يجدوا له من حل إلا إخراسه إلا الأبد..
كان المهدي، كما تحكي المصادر، قياديا لا يُعوض، قادرا على نسج العلاقات مع الجميع، وأينما تواجد كان مصدر إلهام لمن هم حوله، بكاريزمته وقدرته الفائقة على الشرح والخطابة، وكان المهدي يصوغ أعقد الأفكار بلغة الشعب الذي تُكبله الأمية، وبأقل العبارات اقتصادا كان يوصف بـ “الدينامو”، الذي أينما تواجد تتولد الحركة، وهي الحركة الرافضة للظلم و”الطبقية” والسائرة إلى الأمام، إلى حيث كان يرى المهدي مغربا آخرا وعالما أخرا..
خلال فترة ليست بالطويلة قبل وفاته، كان الحسن الثاني يريده أن يعود إلى المغرب وأرسل إليه من يفاوضه حول ذلك، وردد بأن “هناك معادلات رياضية حول مستقبل المغرب أحتاج أن أحلها مع أستاذي”، إذ كان بنبركة ممن درسوا الملك الحسن الثاني في المدرسة المولوية.
جذور “الأسطورة”..
بمدينة الرباط ولد المهدي ذات يوم من يناير سنة 1920، حينما كانت المقاومة المسلحة المغربية تخوض أشرس معاركها ضد الاحتلال. درس بالكُتاب وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بعدها بثانوية مولاي يوسف، وكان يعمل آنذاك محاسبا في سوق الجملة، كما كان مولعا بفن المسرح، وكان عضوا بفرقة مسرحية، كما متفوقا في دراسته، إلى درجة أنه إذا تغيب الأستاذ يتكلف بإلقاء الدرس.
في عام 1938، حصل المهدي على دبلوم بشعبة الدراسات الإسلامية، ونظرا لتفوقه أُرسل ضمن بعثة من التلاميذ المتفوقين إلى فرنسا، ليحقق حلمه ويلتحق بدراسة الرياضيات، ومع إطلاق الحرب العالمية الثانية، فُرض عليه أن يكمل دراسته في الجزائر، وهناك كان أول مغربي يحصل على شهادة البكالوريوس في الرياضيات.
سيعود المهدي بعدها وسيقوده تخصصه إلى تدريس ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، جمعت بين الأستاذ والتلميذ حسابات الرياضيات، لكن ستفرقهم بعد ذلك حسابات السياسة، فسار الحسن الثاني ملكا وسار المهدي أشهر معارضيه عبر التاريخ.
المهدي يصنع مصيره..
منذ أن كان في ثانوية مولاي يوسف، كان المهدي يتشرب روح الوطنية ضد المستعمر، إلى أن أصبح عضوا في حزب الاستقلال، وسيبدأ المهدي مشواره وعمره 24 سنة بتوقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، والتي شكلت حدثا سياسيا كبيرا زعزع الاحتلال الفرنسي، هذا الأخير الذي نفذ حملة من الاعتقالات ستشمل بنبركة، ليقضي بضع أشهر في السجن، وهناك بدأت تتفتق عنده المواهب القيادية، وعند خروجه، سيخصَص له استقبال الأبطال، باعتباره أحد مؤسسي حزب الاستقلال.
سيعتقل المهدي مجددا عام 1951، ويتم نفيه إلى الصحراء جنوب البلاد، بسبب استمراره في التحريض ضد الاستعمار والمطالبة باستقلال المغرب. وتحكي زوجته أنها الوحيدة التي كان مسموحا لها بزيارته مرتين في السنة، وكانت تحتاج إلى يومين كاملين لتصل إليه، وفي السجن ظهر المهدي كقائد واستطاع أن يحافظ على تواصله مع الخارج، بل وأن يصبح جزءا من إدارة السجن، وأن يوظف الجميع لصالح استمراره في النضال، إلى أن أفرج عنه عام 1954.
استمر بنبركة في النضال مطالبا باستقلال المغرب وبعودة الملك محمد الخامس من المنفى، وكان من أبرز المشاركين في مفاوضات إكس ليبان، التي سينتقدها فيما بعد في “الاختيار الثوري”، وسيحظى بنبركة بعد استقلال المغرب عام 1956 بمكانة هامة داخل هرم السلطة، حيث عُين في العام نفسه رئيسا للمجلس الاستشاري الذي ضم ممثلين من مختلف الهيئات السياسية والنقابية، وهو المجلس الذي أراده مدرسة للديمقراطية، إلى حين حل المجلس عام 1959.
في السنة نفسها، تطور الخلاف داخل الاستقلال وبلغ حد التناقض، فقرر بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو الحزب الذي ستُخاض باسمه أشرس المعارك ضد النظام الملكي، وستؤسس جريدة التحرير التي كانت توجه انتقادات لاذعة للمؤسسة الملكية، وللموالين لها، وازدادت الأمور تعقيدا بعد وفاة الملك محمد الخامس عام 1961.
في سنة 1962 سيتعرض بنبركة لمحاولة اغتيال عن طريق صدم سيارته، ليصاب بجروح خطيرة أبعدته عن معركة مقاطعة “الدستور الممنوح”، حيث كان متواجدا في ألمانيا لتلقي العلاجات. في سنة 1963، سيشارك المهدي في أول انتخابات بعد الاستقلال، وفاز بمقعد في البرلمان عن دائرة يعقوب المنصور بالرباط.
مع تصاعد الصراع بين الاتحاد والقصر، سيسافر المهدي إلى الجزائر، ومن ثمة إلى مصر، نسج خلال هذه المرحلة علاقات مع العديد من الزعماء؛ جمال عبد الناصر، أحمد بن بلة، تشي غيفارا، ماوتسي تونغ، هوشي منه، وغيرهم من قادة العالم الثالث، وهناك برز المهدي كمناضل أممي يدافع عن حركة التحرر الوطني في العالم العربي وعبر العالم، وظل المهدي لنحو ثلاث سنوات يعد برفقة أبرز القيادات الثورية اليسارية في العالم لإنجاح مؤتمر يضم أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لتوحيد نضالها ضد النظام الإمبريالي، وهو المؤتمر الذي كان مقررا عقده عام 1966 بالعاصمة الكوبية هافانا.
اغتيال بعنوان “كفى BASTA”
كان المهدي بنبركة شخصية سياسية مثيرة للجدل، الشيء الذي جعله محط أنظار المخابرات العالمية، كان كثير التحرك لتحضير المؤتمر، وكان هذا الأخير المدخل الذي سيبنى عليه اغتيال المهدي، ففي صباح 29 أكتوبر 1965 بالقرب من مقهى ليب وسط العاصمة باريس، حيث كان على موعد/فخ مع مخرج لإنجاز وثائقي عن حركات التحرر العالمية بعنوان “كفى BASTA”.
قابله شرطيان فرنسيان، طلبا منه هويته فقال إنه لم يأتي لممارسة السياسة، وبعد حديث دار بينهم أخبروه أن هناك موعد مع شخصية سياسية فرنسية بارزة، وفق ما حكى جورج فيغون أحد من شاركوا في الجريمة، وطلبوا منه الصعود معهم إلى السيارة، وهو ما فعله بعد أن تأكد من هويتهما المهنية.
وفي المقابل وحسبا الرواية الرائجة، وبعد تعذيب بنبركة سيتم تسليمه للجنرالين المغربيين محمد أوفقير وأحمد الدليمي الذين سيحلان بالفيلا صباح اليوم الموالي، وتحت التعذيب المهول الذي تعرض له ستزهق روح بنبركة.
لا أحد يعرف تفاصيل ما جرى بعد ذلك بالضبط، وأين اختفت الجثة، فشاعت روايات أنها دفنت في فرنسا، وقيل أنه تم ترحيلها وأذيبت في حوض أسيد في المغرب، وقيل إنه دفن تحت السفارة المغربية في فرنسا، لكن لم توجد رواية واحدة بأدلة دامغة لأن التحقيق أُقبر، والمتهم في الاغتيال هي المخابرات المغربية والفرنسية بالأساس، بمشاركة الموساد الإسرائيلي والاستخبارات الأمريكية.
برأ الحسن الثاني نفسه من تهمة التورط في تلك الجريمة، وقال في كتابه ذاكرة ملك، إنه فوجئ بخبر مقتل معلمه، وأن من قتل المهدي هو نفسه الذي خطط لاغتيال الملك في إشارة إلى الجنرال أوفقير.
مضت الحياة بعدها وانهارت مقولة “بيننا وبين القصر جثة المهدي” تحت ركام المفاوضات بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والنظام، وظلت قضية المهدي “الأسطورة” لغزا محيرا، يمتد عبر العصور مننصبا كعلامة استفهام كبرى تُساءل الجميع عن مصير زعيم سياسي، كان من الممكن أن يصنع مغربا آخرا بوجوده.