ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأحمر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة التاسعة: الفقيه البصري.. نجا من الإعدام مرات وخطط لاغتيال الحسن الثاني مرات أخرى
الفقيه البصري شخصية مغربية أسالت الكثير من المداد، وأثارت الكثير من النقاش، وشغلت حيزا مهما من الحياة السياسية بالمغرب على امتداد أكثر من نصف قرن، حُكم بالإعدام أربع مرات وعاش مرارة السجون، واختار المنفى ليقضي فيه 35 سنة متنقلا بين البلدان حتى استقر بفرنسا.
حياة محمد البصري الملقب بالفقيه، شهدت الكثير من الأحداث والتقلبات، إذ إنه كان قريبا من المطبخ الداخلي لجيش التحرير والمقاومة المسلحة، ومن أبرز مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومن أبرز من اختاروا حمل السلاح في وجه الحسن الثاني والتخطيط لاغتياله، وهو رجل قاده إيمانه ودفاعه عن الاختيار الثوري إلى القطيعة مع رفاق الأمس وتفضيل المنفى على مشاهدة الاتحاد وهو يُساق إلى الخضوع.
يصفه العباس بودرقة، أحد أكثر الذين رافقوه في حياته، بأنه رجل متّزن وهادئ، وعلى قدر كبير من القدرة على القيادة. وعلى الرغم مما قيل عن طموحاته العسكرية، فإن بودرقة يجزم أنه لم يسبق له أن استعمل السلاح في حياته، بل كان رجل قيادة وفكر تكتيكي، له قدرة على التحليل السياسي، أبهرت أشهر القادة العرب الذين جالسهم.
طيلة حياته، التي لا يمكن تلخيصها في أسطر، راكم الفقيه شبكة من العلاقات من مختلف المستويات، إلى درجة أن المعلومات كانت تتقاطر عليه من مل حدب وصوب، وهو الرجل الذي جعلته خبرته وحنكته يستبق العديد من الأحداث ويتنبأ بها، ومن أكثرها غموضا تنبؤه باغتيال عمر بن جلون في سبعينات القرن الماضي.
كان الفقيه قريبا بشكل لا يصدق من الموت وأحكام الإعدام، إلا أنه كان في كل مرة ينجو بأعجوبة. كاد ينهي حياته القائد الكلاوي وهو مازال شابا، عندما تمرد في وجهه قبل أن يتراجع عن ذلك، وحكم عليه الحسن الثاني بالإعدام قبل أن يتحول الإعدام إلى مؤبد ثم إلى سراح بعد المفاوضات التي خاضها الحكم مع الاتحاد.
الفقيه كان مؤمنا بمقولة المهدي بن بركة بأن “أفضل حل للنظام هو زواله”، وظل مؤمنا بذلك إلى أن افتقد كل مقومات تحقيقه. قال عنه محمد بوكرين إنه خطط لاغتيال الحسن الثاني 18 مرة، كما أنه كان على تنسيق مع قادة محاولات لانقلابين العسكريين سنوات 1971 و1972 من القرن الماضي، وخطط لأحداث 3 مارس 1973، كما نسق مع جبهة التحرير لقصف طائرة الملك قبل أن يتراجع عن ذلك في أخر لحظة.
الفقيه وبن بركة وصفا بأنهما أبرز أركان الاتحاد، وإذا كان المهدي معروفا بالسياسة والتنظير للاختيار الثوري وقيادة المؤتمرات العالمية، فإن الفقيه كان الخلفية العسكرية للاتحاد، وقبلها كان مؤسس جيش التحرير الذي كبد الاستعمار خسائر كبيرة، وحتى عندما نال المغرب استقلاله، وصفه الفقيه بأنه استقلال شكلي وغير مكتمل، رافضا وضع السلاح، كما انتقد مفاوضات “إكس ليبان” التي كان مشاركا فيها، وأدار جريدة “التحرير” التي كانت مثيرة للجدل وقتها.
عندما عاد من منفاه منتصف 1995، بعد مفاوضات عسيرة، لم يبتعد عن السياسة، وكان رافضا لما اعتبره الحكم الفردي الملكي، وعارض بشدة قبول الاتحاد بدستور 1996، كما انتقد دخوله تجربة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، واستمر في خطاباته أمام الحشود الاتحادية التي كانت ترى فيه الرمز المناضل، إلى أن وافته المنية، ولم يكن ذلك في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بل كان في العهد الجديد مع الملك محمد السادس.
بدمنات كانت الولادة..
بقرية أدوز بسلسلة جبال الأطلس بالقرب من مدينة دمنات شرق مراكش، ولد محمد البصري سنة 1925، وفيها درس بكُتاب قرآني، إلى حين التحاقه سنة 1944 بمعهد بن يوسف في مراكش، وهناك بدأ نضاله ونشاطه السياسي ضد الاحتلال الفرنسي، وفي المعهد نفسه كانت أولى بوادر التنظيم النقابي لما يعرف بالاتحاد الوطني لطلبة المغرب تتشكل.
من بين أكثر المشاهد التي أثّرت فيه، كما يحكي في مذكراته، مشهد مُعمر فرنسي وهو يجلد مواطنا مغربيا أمام الملأ دون أن يردعه أحد، وكيف كان يسطو الاستعمار على ممتلكات الفلاحين المغاربة البسطاء وينهبها بالابتزاز، وكذلك استغلال باشا مراكش التهامي الكلاوي الفلاحين والسطو على أملاكهم.
قصة حمل السلاح.. قبل الاستقلال وبعده
ستقوده حياته الرافضة للاستعمار إلى المساهمة في تنظيم أهم الخلايا المسلحة الأولى، وفي قيادة حركة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال في النصف الأول من الخمسينات، إذ أسس سنة 1953 رفقة محمد الزرقطوني ورحال المسكيني وغيرهم ما يعرف بجيش التحرير، وأطلقوا عمليات فدائية أضرت كثيرا بالفرنسيين، حتى ألقوا عليه القبض بعد ذلك بسنة، فكانت المرة الأولى التي يحكم فيها عليه بالإعدام عام 1954، لكنه تمكن بأعجوبة في 1955 من الفرار من سجن القنيطرة قبل تنفيذ الحكم.
خلال السنوات الأولى من استقلال البلاد، كان الفقيه البصري الشخصية الثانية والوحيدة بعد الملك محمد الخامس الذي يلقي خطابه بعد خطاب السلطان في كل مناسبة لتخليد ذكرى ثورة الملك والشعب. يروي أحمد ويحمان، صديق الفقيه، أن الملك محمد الخامس كان يعتبر الفقيه ابنا له رفقة عبد الكريم الخطيب، إذ إنه أعطاه ثقته لتشكيل حكومة عبد الله إبراهيم، التي ستنهار سنة بعد ذلك.
مطلع الستينات وقبل اعتلاء الحسن للعرش بقليل، اعتقل الفقيه البصري بسبب خط تحرير جريدة التحرير رفقة عبد الرحيم بوعبيد سنة 1960، وبسبب مقاطعة الاتحاديين دستور سنة 1962، وانتقادهم موقف المغرب في إطار حرب الرمال، اشتد الصراع أكثر، فتم إلقاء القبض عليه فيما يعرف بأحداث 16 يوليوز 1963، إذ تم كشف خلايا ثورية من منظمتين مسلحتين، واحدة يرأسها الفقيه محمد البصري والثانية تابعة لشيخ العرب المسمى أحمد اجوليز، وكان المهدي بن بركة ينسق بينهما ويقدم لهما التغطية السياسية، بتهمة التخطيط لاغتيال الحسن الثاني، ليزج به في معتقل دار المقري، ويجتاز فترات عصيبة تحت التعذيب، ويحكم بالإعدام ثم المؤبد، ليطلق سراحه سنة 1965 إبان الانتفاضة التلاميذية، ليفلت مرة أخرى من الموت.
حكاية المنفى الاختياري لأكثر من 35 سنة
في السنة نفسها (1965) سيتعرض رفيقه المهدي بن بركة للاغتيال، ثم سيعلن الملك الحسن الثاني حل الحكومة والبرلمان والدخول في حالة الاستثناء، بعدها فرّ الفقيه البصري سنة 1966 إلى فرنسا عن طريق اسبانيا، ليقود المنظمة السرية الموازية للاتحاد من منفاه، واستمر في نشاطه السياسي متنقلا بين الدول، جامعا شتات اللاجئين المغاربة عبر العالم.
ومن منفاه أيضا بقي مدافعا عن المغرب، رافضا أي تدخل أجنبي في ترابه، لكن عداءه للحكم سيستمر، ما جعله على علم بمحاولات الانقلابين العسكريين، إلى أن قام مجموعة من المنتسبين للمنظمة السرية التي كان يقودها الفقيه إلى جانب محمد بنونة وعمر دهكون، إذ إنها كانت موازية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والتي ستقود أحداث جماعة مولاي بوعزة بإقليم خنيفرة سنة 1973، وكان الفقيه متوجسا، إذا إنه كان يرى أن الشروط غير متوفرة بعد، وهكذا كانت نهايتها مأسوية حتى إنه علّق قائلا بأن الرفاق اختاروا الموت في بلادهم على حياة اللجوء.
بعد تلك الأحداث وأمام الاختيارات التي لجأ إليها الاتحاد الاشتراكي، ستحصل قطيعة بين الفقيه ورفاقه، وستستمر لسنوات طويلة، وفي أواخر الثمانينات، ستجري المفاوضات بينه وبين نظام الحسن الثاني، وكان من أبرز من قادوا المفاوضات مع الفقيه وزير الداخلية إدريس البصري الذي شاءت الصدف أن يكون مشاركا له في اسم النسب.
وبعد سنوات من المفاوضات، سيعود محمد البصري الملقب بالفقيه إلى المغرب مجددا منتصف عام 1995، إثر عفو شامل أصدره الحسن الثاني عن المنفيين والمعارضين والمعتقلين السياسيين، فبدأ الفقيه البصري يعمل على مشروع «الكتلة التاريخية»، الذي حاول من خلاله لمّ صفوف قوى اليسار واليمين والتيارات الإسلامية، لوضع حد للعديد من الممارسات السياسوية، إعلاء للمصلحة العامة.
قال فيه الملك محمد السادس، بعد وفاته يوم 14 أكتبوبر، عبر برقية تعزية لعائلته إنه كان “أحد قادة المقاومة المجاهدين من أجل استقلال المغرب وتحريره ووحدته وعزته”.
نحيي الاهتمام بالذاكرة و نرجو تدقيق المعطيات، لاسيما ان هناك وفرة للوثايق و بعض الشهود الثقاة على تاريخ المغرب الراهن ما بوالوا أحياء و رهن إشارة اي بحث جاد .
تحياتي