ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأحمر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة السادسة: جبيهة رحّال.. ثوري من الحركة التلاميذية إلى المعمل وحتى النهاية
مضى رحال جبيهة وراء إيمانه واعتقاده حتى نهاية حياته. والنهاية في قصته لم تكن عادية وكذلك المسار، هذا الأخير الذي تعرض فيه رحال للاعتقال مرات عديدة، وتدرج فيه عبر مراحل النضال، حتى أصبح رمزا يستلهم منه الآخرون معاني الصمود والإقدام والشجاعة، خصوصا من أبناء جيله ومن شاركوه برودة الزنزانة.
رحال لم يكن من نوع المثقفين الجالسين فوق عرشهم العاجي، والذين حتى وهم في أقصى درجات ثوريتهم يحتفظون بنخبويتهم. رحال إنسان جمع بين التجريد النظري والقدرة على التحليل، واستيعاب الدروس من الميدان، إذ أنه لحظة انخراطه في ما عرف بمنظمة “23 مارس” الماركسية اللينينية، لم يكن أستاذا أو محاميا أو مهندسا، بل كان عاملا في المصنع يستشعر كل يوم الاضطهاد، ويرى أبناء طبقته يكدحون لتراكم القلة أرباحها.
يحكي من عرفوا جبيهة عن قرب، أنه كان مناضلا على الدوام ولم يقبل الاستسلام يوما. من النقابة الوطنية السرية للتلاميذ حين كان تلميذا، إلى الاضطلاع بالمهام الكبيرة والخطيرة داخل “23 مارس”. وحتى أثناء اعتقاله الأخير، استمر في نضاله وأدى مهاما كثيرة خدمة لقضيته وقضية رفاقه، من تحضير النقاشات والتنسيق مع العائلات إلى خوض المعارك من داخل السجون.
رحلة من قلعة السراغنة إلى البيضاء
بقلعة السراغنة، التي تبعد عن مدينة مراكش بحوالي 84 كيلومترا، صرخ رحال صرخته الأولى معلنا خروجه إلى هذا العالم سنة 1948. تلقى تعليمه الابتدائي بالمنطقة نفسها، ثم انتقل إلى سيدي رحال ليتابع دراسته الإعدادية، وانتقل بعدها إلى مدينة الدار البيضاء، واختار أن يدرس بشعبة الميكانيك في ثانوية جابر ابن حيان.
ومنذ حداثة سنه، سيبدأ رحال جبيهة نشاطه السياسي، فدخل بذلك سجلات التحقيق، ليعتقل مرات عديدة خلال مسيرته. وكان أول اعتقال له يوم 23 مارس 1965 على خلفية انتفاضة تلاميذية قضى خلالها فترة اعتقال امتدت 15 يوما ليطلق سراحه بعدها، وأعيد اعتقاله مرة أخرى سنة 1968، إثر إضراب شنه تلاميذ المؤسسة التعليمية التي كان يدرس بها.
في سنة 1970 سيحصل رحال على ديبلوم تقني، ليلتحق في السنة نفسها إلى العمل في معمل لصنع المعلبات بالدار البيضاء اسمه “كارنو”، وهناك انخرط في النضال العمالي ونسج علاقات واسعة مع العمال. في سنة 1972، التحق رسميا بمنظمة “23 مارس”، ليبدأ نشاطه الثوري داخلها. سنة 1973 سيتعرض لمحاولة اعتقال أخرى بالمعمل الذي يشتغل به، في إطار حملة كبيرة قامت بها السلطات المغربية ضد نشطاء الحركة الماركسية اللينينية، وشملت الحملة ما كان يعرف آنذاك بالنقابة الوطنية للتلاميذ، والتي كانت تشتغل بسرية، واستطاعت الشرطة اعتقال الكثير من أفرادها، واقتحام مقرها المركزي الذي كان مكترى باسم جبيهة رحال.
من درب مولاي الشريف إلى زنزانة أفريقيا
في بداية نونبر 1974، وعلى إثر حملة كبيرة شنتها الدولة مرة أخرى على نشطاء اليسار الراديكالي، سيتم اعتقال جبيهة رحال لتكون هذه المرة الأخيرة، سيزج به في درب مولاي الشريف ليقضي أكثر من سنة تحت مختلف أشكال التعذيب النفسي والجسدي، وفي ظروف لا إنسانية. وفي يوم 16 يناير 1979، سيتم إدخاله إلى سجن غبيلة المدني بالدار البيضاء، ضمن مجموعة من المعتقلين، أطلق عليهم اسم مجموعة 26.
في 3 يناير من سنة 1977، سينطق القاضي بأحكامه في حق المجموعة 26، فكان نصيب جبيهة رحال 30 سنة سجنا نافذا، بتهمة محاولة قلب النظام وغيرها من التهم. احتج جبيهة رحال ورفع شعارا يصف فيه القاضي بالفاشية، فأضيفت له سنتان بتهمة إهانة القضاء، لتصبح المدة التي عليه قضاءها وراء القضبان 32 سنة سجنا.
بعد صدور الأحكام، سيتم وضع كل مجموعة من المعتقلين في زنزانة، وحرصت إدارة السجن على أن لا يكون هناك تواصل بينهم. أطلقت تسميات مختلفة على الزنازين؛ من قبيل زنزانة أفريقيا وزنزانة أمريكا وزنزانة الشمال وزنزانة آسيا، وكان رحال في زنزانة أفريفيا إلى جانب كل من فؤاد الهيلالي، ومحمد حسان، وإدريس ولد القابلة، وعبد السلام المودن، وعبد العالي بنشقرون، ومحمد الزكريتي.
وبشهادة من عاشوا معه في الزنزانة، كان رحال شجاعا، إذ بمجرد ما فكروا في إدخال راديو ترانزيستور لمتابعة الأخبار، كان أن قام بالمهمة مستغلا شبكة علاقاته العمالية، وفي اليوم الموالي (17 يناير) سيقتحم الحراس الزنزانة ويختطفوا رحال، ليتعرض للتعذيب مكان فؤاد الفيلالي، ورغم أن الحراس كانوا مخطئين إلا أنه لم يتكلم.
وراء اليقين حتى النهاية
يحكي رفاقه، كيف أنه لعب أدوارا متقدمة في العديد من المعارك التي خيضت من داخل السجون، ومنها معركة عبد اللطيف زروال التي انطلقت يوم 14 نونبر 1976 تحت شعار “المحاكمة أو إطلاق السراح”، والتي دامت 17 يوما، وشاركت فيها ثلاث مجموعات من المعتقلين، لتتم الاستجابة لمطلب تحديد المحاكمة وإطلاق سراح 105 معتقل يوم 7 دجنبر 1976، بالإضافة إلى مشاركته في معركة يونيو 1977 ومعركة سعيدة المنبهي ومعركة القانون الأساسي للمعتقل في فبراير 1978.
وبسبب خلافات سياسية، سينفصل رحال عن منظمة “23 مارس”، ليقود أغلب عناصر المجموعة التي كانت معه من المعتقلين. وعلى الرغم من وجوده في السجن، سيستمر في العمل والنقاشات حول أسباب الفشل وتقييم التجربة وغيرها من النقاشات، خصوصا تلك التي كانت تسعى إلى الوحدة بين تنظيمات اليسار الراديكالي، كل من “23 مارس” ومنظمة “إلى الأمام”.
لعب جبيهة رحال أيضا، وباعتراف من المعتقلين الذين عايشوه، دورا كبيرا في تنشيط نضال عائلات المعتقلين السياسيين، خصوصا الدور الذي قام به أخوه الدكتور عمر جبيهة في توحيد نضال عائلات المعتقلين السياسيين، من أجل الدفاع عن حقهم غي إطلاق السراح والعودة إلى أسرهم.
وقّع جبيهة رحال على نهاية غير عادية، مقارنة مع وضعية المعتقلين آنذاك، إذ لم يقبل وضعية السجن والمدة الخيالية التي كان عليه قضاءها لينعم بحرية قد تأتي أو لا تأتي، فخطط لعملية هروب من أجل العودة للعمل الثوري، قادها إلى جانب المتعقلين أسيدون والبريبري، إذ كانوا في مستشفى ابن سينا بالرباط، وربط رحال مجموعة من الأغطية بعضها في بعض لصناعة حبل يساعده للنزول من طابق علوي، لكن الحبل انقطع أثناء محاولة الهروب، ليشهد بذلك مصرعه يوم 13 أكتوبر 1979.