ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأحمر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الخامسة: عمر دهكون.. اليساري الذي أعدمه الحسن الثاني صبيحة عيد الأضحى
في صبيحة الفاتح من نونبر عام 1973، وهو اليوم الموافق لعيد الأضحى حينها، وفي حدود الساعة السادسة صباحا و38 دقيقة، سيجد عمر دهكون نفسه أمام فرقة منفذي حكم الإعدام بالسجن المركزي بالقنيطرة، لتوضع نقطة النهاية في مسيرة الرجل التي انتهت عن عمر يناهز 37 سنة.
عمر دهكون هذا، الذي وصفته البيانات الرسمية للدولة بالإرهابي، كان واحدا من أكبر المخططين لأحداث 3 مارس 1973 أو ما عرف آنذاك بأحداث “مولاي بوعزة”، والتي هدفت إلى قلب نظام الحكم بالمغرب بلغة السلاح والرصاص، عوض لغة الشعارات السياسية والبيانات، ذلك أن دهكون ورفاقه، آمنوا بالقول الشائع حينها أن “الدواء الوحيد لهذا النظام هو اجتثاثه”، وكان لهذا القول ما يبرره عند شباب حالم، يسعى إلى إحلال عالم المثل في عالم تمزقه التناقضات الطبقية.
فشلُ وانتهاء التجربة المريرة، التي قادها دهكون ورفاقه، والتي لعلع فيها الرصاص في سماء الأطلس المتوسط، وسقط فيها الموتى/الشهداء، وأعدم البعض وهرب البعض الآخر إلى الجزائر، تناسلت بعدها الأحداث والقراءات التي شكلت منعطفا في تاريخ المغرب وتاريخ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالخصوص، هذا الأخير الذي سيعقد بعدها مؤتمرا استثنائيا سيمارس فيه طقوس “التعميد” ليكفر عن ذنوب المتمردين منه ويقطع مع تاريخ الراديكالية السياسية، ليخرج حاملا شهادة ميلاد جديدة موقعة باسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
بدأت قصة عمر دهكون مع الرفض والتمرد، منذ زمن الاستعمار، إذ كان من جانب يحس بوهج المقاومة المسلحة وجيش التحرير الذي كان يسري في وسط البسطاء من أبناء شعبه، والذين لم يُجيدوا لغة المفاوضات والدبلوماسية والجلوس إلى الطاولات المستديرة، ومن جانب آخر كان قد عاش حدثا مؤلما ظل يرافقه طيلة حياته، تمثل في قيام أحد المعمرين بدهس أخويه بسيارته دون أن يُجازى على فعله بأي عقاب، فكانت تلك الحرقة محددا خفيا في غمار الاختيارات التي سيتخذها عمر دهكون بعدها..
الثورة لا تعني إلا حمل السلاح..
عمر دهكون من النوع الذي كانت انعطافات حياته كلها إلى الجانب الأيسر وإلى الراديكالية قولا وفعلا، بدأ مؤمنا بضرورة النضال ضد الاستعمار فانتمى لشبيبة حزب الاستقلال وقتها، وبعد الاستقلال وعندما بات الصراع ينمو في أحشاء الحزب، اختار دهكون أن يصطف إلى جانب اليسار مع تيار المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم وبوعبيد وغيرهم، وعندما كان الاصطفاف داخل الحزب بين التيار المحافظ والثوري، اختار دهكون هذا الأخير، وأسس بعد هزيمة يونيو 1967 رفقة كل من الفقيه البصري ومحمد بنونة الملقب بمحمود منظمة سرية موازية للاتحاد، تطمح لقلب نظام حكم الحسن الثاني، والتي آمنت بأن الثورة لا تعني إلا حمل السلاح.
وإن كانت الغاية تبرر الوسيلة، فالمصادر التاريخية تحكي كيف مضى عمر دهكون، وأولئك الذين آمنوا معه بأن الخلاص لا يأتي إلا من فوهات البنادق وراء يقينهم، إلى التدريب العسكري بالجزائر ودول أخرى، إلى حين أتى الموعد، وقرروا الدخول إلى المغرب من أجل حسم المعركة، لكنهم لم يكونوا يعرفون بأنهم بصدد وضع آخر اللمسات في قصة ملحمة تراجيدية، اختار لها المهدي بنونة ابن الشهيد محمد بنونة اسم “أبطال بلا مجد”..
وكان الاعتقاد الراسخ في أوساط هؤلاء، أنه بمجرد أن تُطلق أول رصاصة في الأطلس، وبالضبط في أجلموس نواحي خنيفرة، يوم 3 مارس 1973، ستهب الطبقات الفقيرة إلى تلبية النداء، لكن العكس هو ما حدث، إذ إن الطبقات الشعبية كانت مشغولة بتدبير لقمة العيش، فتمت محاصرة أعضاء المنظمة، الذين اعتبر النظام محاولتهم استمرارا لانقلاب الطائرة سنة 1972، فوضعت نقطة النهاية لتلك التجربة، وبقيت الأسماء والقبور والدروس متناثرة هنا وهناك.
من تالوين مرورا بالبيضاء إلى سلا
كان أب عمر دهكون، المسمى أحمد بن ابراهيم يقطن بدوار كنارن قبيلة سكتانة بتالوين التابعة لإقليم تارودانت، أيام الاستعمار. وأمام بطش هذا الأخير وبطش العميل المعروف باسم القائد الكلاوي، سيضطر الأب إلى هجر منطقته والانتقال إلى مدينة الدار البيضاء.
سنة 1936، رأى عمر دهكون ضوء الشمس أول مرة بتالوين، وسط أسرة سوسية مكونة من 11 طفلة وطفلا، سيلتحق بالكُتاب بدرب السلطان، الحي الشعبي المعروف بالدار البيضاء، انتقل بعدها إلى الرباط من أجل استكمال الدراسة، تخصص بعدها في الكتابة على الآلة بثانوية الليمون، وفي الرباط بدء يتعرف على خلايا الطلبة والثورة والنضال.
التحق بعدها بمدينة سلا، حيث كان المجاهد أبو بكر القادري، ومع بداية الستينات سيحصل دهكون على شهادة الدروس الثانوية. وفي مدينة سلا بدأ في نسج العلاقات الحركية والتعرف على الأسماء والانخراط أكثر فأكثر في تبني المشروع، إلى أن جاءت هزيمة يونيو 1967، والتي فجّرت في قلبه وقلوب أبناء جيله نيران الغضب، ليلتحقوا بالتخطيط لحسم المعركة عسكريا.
ثورة أم “بلانيكة”
في تقييمهم لتلك الأحداث، الكثيرون ذهبوا إلى القول إنها كانت تعبيرا عن حركة مغامرة أو بلانكية تريد الاستحواذ على السلطة بلغة السلاح، وتستلهم تجربتها من نظام البعث ونظام الثورة في الجزائر وغيرها، وأنها كانت معزولة عن القواعد الشعبية وعن الامتداد الجماهيري الذي كان سيكفل لها الاستمرار.
الفقيه البصري، الذي تبرأ من تلك الأحداث، على الرغم من أنه كان ضالعا بها، بحجة أنه كان في مهمة إلى دولة عربية وهي ليبيا لحسم نقاش بشأن الإذاعة التي كانت تبث من هناك، ولأنه أيضا كان مازال حاملا لعضوية الاتحاد، وصف الأحداث قائلا “إن الرفاق بعدما ضاقت بهم الأرض في الجزائر بسبب ضغط المخابرات الجزائرية، قرروا الدخول طواعية إلى المغرب والموت فيه عوض الانتظار”، مع استحضار ما يعنيه استبدال مصطلح الاستشهاد بالموت في أدبيات اليسار.
صك الاتهام..
قبيل تنفيذ حكم الإعدام، وجهت المحكمة العسكرية بالقنيطرة صك الاتهام لمن ألقي عليهم القبض، حيث حكم في الأول على 15 شخصا بالإعدام، بالإضافة إلى أحكام المؤبد والسجن بعشر سنوات وغيرها، وقبلت محكمة النقض الطعن، لتعاد المحاكمة مرة أخرى حسب النقيب بنعمرو، لتستمر على مدى 24 ساعة متواصلة، تم فيها رفع عدد المحكومين بالإعدام إلى 21 شخصا والرفع من أحكام السجن.
عمر دهكون، وإلى جانب نشاطه في استقطاب الأعضاء وإرسالهم إلى فرنسا ثم إلى دول أخرى لتلقي التداريب العسكرية، نُسبت له أيضا تهم أخرى حسب صك الاتهام منها “محاولة اغتيال المسمى الورادي في أواخر شهر دجنبر 1972، عندما أطلق عليه ثلاث رصاصات بمدينة سلا، محاولا قتله، وذلك بعد نهب سيارة من الدار البيضاء استعملها لهذه العملية”، إضافة إلى اتهامه بقيامه أوائل مارس من سنة 1973، بتعاون مع خلاياه بصنع قنابل متفجرة وضع بعضها بنفسه والبعض الآخر بواسطة بعض هؤلاء الأفراد في كل من مسرح محمد الخامس بالرباط والمكتبة الأمريكية، وبدار أمريكا وتحت سيارة القنصل الأمريكي بالبيضاء، واتهم أيضا بقيامه بوضع قنابل في مقر صحيفة «الصباح» (لوماتان) بالبيضاء وفي الدائرتين الخامسة والثامنة للأمن الوطني يوم 29 أكتوبر 1971».
وأمام المحكمة، أجاب عمر دهكون بالإيجاب على هذه التهمة، وكان قد أجاب عن أسئلة تفصيلية طرحتها رئاسة المحكمة في جلسة سابقة.
عمر دهكون ورفاقه الذين خاضوا تلك التجربة، وعلى الرغم من النعوت والأوصاف والتقييمات التي يمكن أن تعطى لها، كانوا في مرحلة تاريخية دقيقة، ويعلمون أن الخطأ والفشل سيساوي نهايتهم بالضرورة، كما كان النجاح سيساوي نهاية من صنفوهم في خانة “العدو الطبقي”.
رحم الله الشهيد عمر وكل الشهداء
بخصوص ما قيل في هذا المقال عن الفقيه البصري، فيه ظلم لهذا القائد الكبير .وقد عشت، رفقة سنوات، معه و مع رفيق مشترك للشهيد عمر دهكون و الفقيه، هو المناضل الصلب د.عمر الخطابي، و سمعت منهما الإثنين، كما سمعت من كثير ممن صنعوا تلك المرحلة، فيهم من قضى و منهم من لايزال على قيد الحياة مثل البشير الزين النجار و عبد الله المالكي فرزات و احمد بويقبة الذي أطلق اول رصاصة مولاي بوعزة مع موحى أولحاج أمحزون ( و ليس أمزون كما كتب بالمقابل ) … الخ
وتأكد لي أن ما يروج عن الفقيه البصري و ما تؤول به تصريحاته المباشرة و المبتورة غير صحيحة، وكثير منها معرض و مشبوه الإساءة لهذه المحطة المشرقة و هذه الرموز النبيلة في تاريخنا الوطني، و المؤسف ان بعضها وراءها بعض المنتسبين لهذه الحركة، لقصور فهم لدى البعض و تهافت لدى البعض و لحسابات صغيرة و شخصية في كثير من الحالات .