دخل عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، جبهة تعديل القوانين الانتخابية أعزلا، إلا من أطر وزارته. خاض غمار أحد أبرز التحديات، التي أفرزتها الحياة السياسية في الآونة الأخيرة، لتعديل القوانين الانتخابية، لتنسجم أكثر مع قواعد الشفافية والنزاهة والتنافس السياسي الشريف، بين الفرقاء السياسيين، وتضمن انخراط ومشاركة واسعة ضمن الانتخابات المقبلة، التي قرر المغرب عدم تأجيلها، ورصَد كل الإمكانات لإجرائها في ظروف ملائمة.
لم تكن الطريق مفروشة بالورود أمام الوزير الريفي، ليسهر على إجراء التعديلات الجديدة، بإقناع أغلبية الفرق النيابية وأعضاء لجنة الداخلية بمجلس النواب بالموافقة، لاسيما أمام المعارضة الشرسة، التي واجهت بعض التعديلات، التي جاءت بها مشاريع القوانين الانتخابية، اتضح أنها لا تتوافق مع مصالح بعض الأحزاب السياسية، على رأسها حزب العدالة والتنمية، قائد الأغلبية الحكومية، الذي انتقدها بشدة وصوت ضدها.
وعلى امتداد أشهر من المشاورات، التي تقدمت خلالها مختلف الأحزاب السياسية بمذكرات، ضمّنتها رؤيتها حول تعديل القوانين الانتخابية، بعدما أجرت لقاءات متعددة مع وزير الداخلية، كان لفتيت منصتا جيدا ومستوعبا ومحللا مقترحات الأحزاب. فكانت الحصيلة، قوانين انتخابية تنهي “الريع” السياسي، الممثل في اللائحة الوطنية للشباب، وترفع تمثيلية النساء، وتعدل القاسم الانتخابي، وتحمل العديد من المستجدات، التي سُميت مكسبا للحياة السياسية، منها رفع الدعم العمومي للأحزاب السياسية.
وفي الوقت الذي كانت فيه مختلف الأحزاب السياسية، تستعد لتخصص كامل جهدها للانتخابات المقبلة، وتخطط لطريقة ناجعة لاستمالة أصوات الناخبين، كان الوزير التكنوقراط، منشغلا بحرب أعظم، تسمو من مصالح ضيقة إلى المصلحة الجماعية، وتترفع عن الحروب الجانبية. قاد واحدة من أشرس المعارك، التي عاشها المغرب الحديث، بمواجهة جائحة “كوفيد19″، التي أرهقت أعتى الدول وأعرق الأنظمة، فكانت الحصيلة مشرفة، تنبئ بأن المغرب في طريق الابتعاد عن مرحلة الخطر.
وُصف لفتيت بـ “خادم الدولة”، وتقلد العديد من المناصب، فأصبح يشكل بالنسبة إلى خصومه فزاعة حقيقية. بينما يرى فيه كثيرون، منقذا خلال الولاية الحكومية الحالية، التي دخلها في أبريل 2017 بمهام محددة ورؤية واضحة، ما يتبين من خلال الحصيلة الإيجابية التي راكمها، خصوصا في مواجهة جائحة كورونا، وأيضا في مواجهة “جائحة” ما سماه متتبعون “ريعا” سياسيا زّكته الأحزاب السياسية.
تكنوقراط ريفي
لفتيت وزير غير منتمٍ لأي حزب سياسي. فمقام أم الوزارات يقتضي النأي عن الحزبية. فهو ريفي قادم من بلدة تفرسيت، التابعة لإقليم الدرويش بالشمال المغربي. البلدة التي رأى فيها النور أول مرة بتاريخ 29 شتنبر 1967. فهو واحد من التكنوقراط الذين حصلوا على الثقة الملكية في أكثر من مناسبة، آخرها تعيينه على رأس وزارة الداخلية يوم 5 أبريل 2017.
وراء نظراته، التي تبدو في الغالب شزراء، يوجد شخص بتكوين جيّد، مكنه من الارتقاء في المناصب منذ تسعينات القرن الماضي. فالوزير لفتيت حاصل على دبلوم دراسة “البوليتكنيك” في باريس عام 1989، ودبلوم المدرسة الوطنية للقناطر والطرق في المدينة نفسها عام 1991.
التحق بعد تخرجه مباشرة بمكتب استغلال الموانئ، ليعيّن على رأس مديرية الموانئ على التوالي بكل من أكادير وآسفي وطنجة بين سنتي 1992 و2002. وبتاريخ فاتح ماي 2002، تم تعيينه مديرا للمركز الجهوي للاستثمار بطنجة -تطوان. ثم عينه الملك محمد السادس عاملا على إقليم الفحص أنجرة بتاريخ 13 شتنبر 2003، ثم عاملا على إقليم الناظور في أكتوبر 2006، وفي 9 مارس 2010، عينه الملك مرة أخرى رئيسا مديرا عاما لشركة التهيئة من أجل إعادة توظيف المنطقة المينائية لطنجة المدينة.
تجددت الثقة الملكية مرة أخرى في شخص لفتيت، ليصبح واليا على جهة الرباط سلا زمور زعير وعاملا على عمالة الرباط، بتاريخ 25 يناير 2014، ثم وزيرا للداخلية، عينه الملك يوم 5 أبريل 2017 في الحكومة التي يرأسها سعد الدين العثماني.
نهاية الريع
من النجاحات البارزة، التي تسجل باسم عبد الوافي لفتيت، إنهاء “ريع” لائحة الشباب، التي منذ أن جاء بها دستور 2011، لأجل إتاحة الفرصة أكثر لانخراط الشباب ضمن الحياة السياسية وتحفيز المشاركة، أصبحت آلية في يد مجموعة من الأحزاب، لشراء الولاء السياسي، وإدخال محظوظين ومقربين إلى البرلمان، دون بذل أي مجهود.
وبينما كان البعض ينظر إلى اللائحة الوطنية للشباب، كمكسب كبير لهم، أصبح كثيرون، بناء على معطيات الواقع السياسي المغربي، يرون فيها “ريعا سياسيا” يجب إنهاؤه. ففسح المجال أمام الشباب للمشاركة الحقيقية، بحسبهم، لن يتحقق عبر طريقة توصف بـ “الريع”، بل بتفعيل دورهم داخل أحزابهم أولا، واستحقاقهم ثقة المواطنين ثانيا.
لفتيت واحد من أصحاب هذا الرأي، الذي شاركته فيه أحزاب سياسية رافضة. وكان له الفضل في أن يضع نقطة النهاية في مسار “ريع انتخابي”، استمر ما يناهز عشرة سنوات، على امتداد ولايتين حكوميتين. ولم يتجرأ وزير قبله، ليتخذ الخطوة ذاتها، أو يطرح الموضوع للنقاش، لتغوّل أحزاب منتفعة من اللائحة، ودفاعها الشرس عن ضرورة بقائها، بمبرر “تعزيز الديمقراطية”.
أمام لفتيت، حسمت لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة في مجلس النواب، الجدل القانوني والسياسي الذي استمر لأشهر بخصوص مشاريع القوانين الانتخابية، التي جاءت بها وزارة الداخلية، بعد تصويت أغلبية أعضاء اللجنة على إلغاء اللائحة الوطنية للشباب، رغم دفاع حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال على بقائها، وتقديمهما مقترحات للإبقاء عليها، ذلك أن لفتيت ظل متشبثا بالدفاع عن مشروع القانون، الذي جاءت به الحكومة، مؤازَرا من طرف حزب الأصالة والمعاصرة الذي تشبث أيضا بإلغائها.
وجاء إلغاء اللائحة الوطنية للشباب، بعدما كان القانون التنظيمي لمجلس النواب، ينص على أن اللائحة الوطنية، تتضمن جزءا أولا مكونا من 60 مقعدا مخصصة للنساء، وجزءا ثانيا مكونا من 30 مقعدا، مخصَّصة للشباب، الذين لا تزيد أعمارهم على 40 عاما خلال فترة الاقتراع. وبإلغاء لائحة الشباب، تعززت تمثيلية النساء، لتصبح حصتهن 90 مقعدا بدل 60 المعتمدة حاليا.
وبينما حظي التعديل بالقبول من طرف متتبعين للشأن السياسي، معتبرين أنه إنهاء لشكل من أشكال الريع السياسي داخل البرلمان، كرّسته بعض الأحزاب، استمرت مجموعة من الوجوه الحزبية في الدفاع عن بقاء اللائحة، معتبرة أن إلغاءها تهديد لأسس الديمقراطية التي أرساها دستور 2011.
دفاعا عن القاسم الانتخابي
من جهة أخرى، قاد تمسك عبد الوافي لفتيت بتعديل “القاسم الانتخابي” حزب العدالة والتنمية إلى الفشل في إقناع باقي الأحزاب السياسية برفض المقترح، الذي جاء ضمن قوانين تنظيم الانتخابات، التي تقدمت بها وزارة الداخلية، فكان أن كسب لفتيت المعركة، بعدما صَوّت أغلبية الأعضاء لصالح المشروع القاضي باحتساب القاسم الانتخابي، على أساس المسجَّلين في اللوائح الانتخابية، بدل عدد الناخبين، بينما صَوت ضد المشروع 12 عضوا فقط.
ولقي تعديل القاسم الانتخابي ترحيبا من طرف مختلف الأحزاب السياسية، باستثناء العدالة والتنمية، إذ اعتبره مراقبون نجاحا في القَطَع مع أحد الأساليب غير المنصفة، في تكريس التمثيلية الانتخابية، ذلك أن إحصاءات بالأرقام، بناء على نتائج الانتخابات الماضية، تُظهر أن حزب العدالة والتنمية، يحتاج عددا قليلا من الأصوات للحصول على مقعد برلماني، فيما تحتاج أحزاب صغيرة عددا أكبرا من الأصوات.
في السياق ذاته، تشير المعطيات إلى أن “النمط الحالي يجعل “البيجيدي” يفوز بمقعد برلماني بأقل ما يمكن من الأصوات”، مفسرا ذلك بأن “المعدل المتوسط اللازم لمقعد برلماني من “البيجيدي” لا يتجاوز 12951 صوتا، في حين يرتفع الأمر عند الاستقلال إلى 13479، وعند الأحرار إلى 14706، ثم يكاد يصل إلى 18000 عند الاتحاد بل و 22800 عند التقدم والاشتراكية…”.
وخلف التصويت بالأغلبية على إقرار القاسم الانتخابي، الذي دافع عنه الوزير عبد الوافي لفتيت، جدلا واسعا، ورفضا داخل حزب العدالة والتنمية، الذي قالت أمانته العامة إنه حزب قوي، وسيتصدى للتراجعات التي جاءت بها القوانين الانتخابية.
بطل في الجائحة
يجمع مهتمون بأن عبد الوافي لفتيت، كان من أبرز الشخصيات المغربية، التي ساهمت في تصميم النجاح المغربي في مواجهة جائحة كورونا، ذلك أن وزارته والأطر المنتمين إليها بمختلف المديريات، كانت في واجهة محاربة الوباء، وفي فوهة انتقادات القرارات الحكومية.
جيش من من العمال والولاة والموظفين تواجَد في الميدان طيلة أشهر الجائحة، للمساهمة من موقعه في إيقاف تهديدها صحة المغاربة، والتخفيف من تداعياتها على الأسر المغربية. فقد كان لفتيت مساهما كبيرا في قرار الحجر الصحي وحظر التجول إلا لظروف استثنائية، وفرض ارتداء الكمامات الطبية، وضمان وصول المساعدات المالية التي منحها صندوق تدبير جائحة لكورونا لملايين العائلات المغربية، إضافة إلى استمرار التدابير الاحترازية موازاة مع رفع القيود تدريجيا لإفساح المجال أمام الانتعاش الاقتصادي…
معطيات كثيرة وإنجازات بارزة وقرارات جريئة، جعلت من عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، خلال الأربع سنوات التي قضاها على رأس أم الوزارات، شخصية استثنائية، رسمت إلى جانب شخصيات أخرى نجاحات مهمة. ورغم الانتقادات التي قد يواجه بها بين الفينة الأخرى، إلا أنه يظل في اعتقاد كثيرين أمرا مبررا، بالنظر إلى مكانة الرجل ومسؤولياته، وتناقض قراراته مع مصالح حزبية أو فئوية.