ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة السابعة والعشرون: بنعيسى أيت الجيد.. يساري اغتاله “إسلاميون” تطاردهم روحه لأكثر من ربع قرن
جاء أيت الجيد بنعيسى أول الأمر من قريته النائية إلى مدينة فاس، لا ينشد إلا متابعة دراسته وأن يحقق آمال أمه، قبل أن تقوده قناعاته إلى المضي في طريق النضال، طريق لم يعلم يوما أنها ستضعه في خانة الأعداء، الذين تُصدر في حقهم أحكام السجن، وأيضا فتاوى التكفير وحكم الإعدام، الذي نُفذ خارج القانون وبصمت منه.
كانت بوصلة الزمن تشير إلى مطلع تسعينات القرن الماضي، وكانت ساحة الأحداث المركب الجامعي ظهر المهراز بفاس، أما طرفا الصراع فكانا هما اليساريين الذين كانت الجامعات وقتها أبرز قلاعهم من جانب، ومن الجانب الآخر الإسلاميين الذين كانوا يبحثون عن موطئ قدم بالجامعة مهما كلف الأمر، وكانت الدولة داعمة للطرف الأخير سعيا نحو إحداث توازن مزعوم، بحسب شهادات عايشت المرحلة.
هكذا وعلى امتداد أكثر من ربع قرن من الزمن، ستبقى جريمة اغتيال محمد أيت الجيد بنعيسى حاضرة في ساحة النقاش، لتكون كواحدة بين أعقد جرائم الاغتيال العالقة بردهات المحاكم إلى اليوم. وهي جريمة على الرغم من وضوح الجناة فيها وانتمائهم السياسي والفكري، إلا أن الطمس الذي تعرضت له حقيقتها، جعلها تطول أكثر من اللازم، وكشف الحقيقة مازال هو مطلب أسرة بنعيسى ورفاقه والشاهد الوحيد في ملفه.
قضية بنعيسى، التي أثيرت حولها اتهامات التسييس والركوب والتوظيف الممنهج، مازال ترواح مكانها لعقود طويلة، خصوصا أن المتهمين فيها أعضاء بارزين في حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة اليوم، وعلى رأس المتهمين يوجد البرلماني عبد العالي حامي الدين، الذي أُجِلت آخر جلسة محاكمته إلى شتنبر 2020 بسبب ظروف الجائحة.
بنعيسى، الطالب اليساري، الذي قدم من إقليم طاطا، وعاش بمدينة فاس طيلة مساره الدراسي، كان من المناضلين اليساريين القياديين بالجامعة، ولهذا يُجمع رفاقه أن مسألة قتله لم تكن حادثا عرضيا بقدر ما أنها كانت اغتيال مُخطَط له، لفكر ومبادئ وقناعات وتصور بنعيسى أيت الجيد، والجناة بحسبهم يتجاوزون من نفذوا الجريمة إلى المسؤولين عنها والمحرضين والمتواطئين فيها.
وفق شهادات رفاقه، كان بنعيسى طالبا استثنائيا معروفا برجاحة فكره والتزامه النضالي، منذ أن كان تلميذا، طالب تتوفر فيه كل مقومات التأثير في محيطه وقيادته، وهو الذي تعرض للاعتقال مدة ثمانية أشهر لانخراطه في معارك طلابية، وإلى حدود صبيحة يوم اغتياله كان مستمرا في الدفاع عن القضايا التي يؤمن بها، إذ كان حاضرا ذاك الصباح في نقاش مع عمادة الكلية لتسوية ملف طلبة مطرودين.
من مآسي قصة بنعيسى، أنه كان الطفل الوحيد لأمه الذي استطاع النجاة بعدما فقدت 13 طفلا قبله بين ذكور وإناث. يحكي رفاق بنعيسى، أنه كان طالبا بشوشا يتسم بأخلاقه وبحبه الحياة وانتصاره لقيم الحب والعدالة والمساواة، ولهذا كان في الصف النقيض من سياسة الدولة حينها، وللسبب نفسه كنّ له “الإسلاميون” الكراهية والحقد، ولم يكونوا ينظرون إليه إلا كزنديق خارج عن الملة، هو والإطار الذي ينتمي له..
في قضية الشهيد أيت الجيد بنعيسى، يبرز اسم الشاهد الوحيد في القضية، وهو رفيقه الخمار الحديوي، الذي ظل متشبثا بإجلاء الحقيقة في ملفه، وقد حضر إلى اليوم أكثر من مائة جلسة محاكمة واستماع في القضية، كما أنه كتب قبل أيام وصيته في ما يخص قضية بنعيسى في حال تعرضه لمخاطر بسبب وباء كورونا، بالنظر إلى أنه يشتغل في الصفوف الأمامية كسائق سيارة إسعاف، وهي الوصية التي يحفظ فيها أقواله لتتابع القضية مجراها في حال تعرض لمكروه.
مازالت هيئة الدفاع وأسرة أيت الجيد ورفاقه، يطالبون بمحاكمة الجناة، ومن بينهم حامي الدين، لكن حزب هذا الأخير اعتبر المحاكمة سياسية وليست قضائية، وصل ذلك حد حضور عبد الإله بنكيران الأمين العام السابق للعدالة والتنميةمحاكمته وأطلق صرخته قائلا “لن نسلمكم أخانا حامي الدين”، ما اعتبرته هيئة دفاع أيت الجيد محاولة للتأثير على القضاء وتسييس ما لا يُسيّس، في إشارة إلى جريمة القتل.
ملف أيت الجيد بنعيسى، من بين الملفات المختلفة، ذلك أن مصيره لم يتم حسمه بعد ومازال قيد الشد والجذب، ومازالت الحقيقة تقطع مشوارها بتؤدة وبطء في حقل من ألغام التسييس والاتهامات ومحاولات الطمس، ويؤمن الكثيرون ومن بينهم أسرة بنعيسى أنه لابد للحقيقة يوما أن تنجلي..
بنعيسى مبعوث الأمل من طاطا إلى فاس..
سنة 1964 بدوار تزكي أدوبلول بإقليم طاطا، الكائن في الجنوب، فتح محمد أيت الجيد بنعيسى عينيه وسط أسرة محافظة، الأب فيها يشتغل فقيها، والأم ربة بيت عاشت ألم فقدان 13 ابنا قبل بنعيسى لم تًكتب لهم الحياة.
منذ صغره، التحق بنعيسى بمدينة فاس ليقيم مع أخيه الأكبر من أجل متابعة دراسته، إذ سيلتحق بالمدرسة الابتدائية المعلمين (ابن الخطيب سابقا) بحي عين قادوس فاس، في الحي نفسه سيواصل تعليمه الإعدادي، إلى أن التحق بالتعليم الثانوي في بداية الثمانينات، بثانوية ابن خلدون.
مع وصوله إلى الثانوية بدأت معالم المناضل تبرز أكثر فأكثر عند أيت الجيد، الذي أصبحت عيناه تُفتحان على مظاهر الاضطهاد والظلم الاجتماعي، فبدأ نشاطه النضالي في الحركة التلاميذية سنة 1983، ليتم نقله تعسفيا من الثانوية سنة 1984، ليلتحق بثانوية القرويين.
انتقاله تزامن مع احتجاجات يناير 1984، التي خرجت فيها مجموعة من المدن المغربية، إذ شارك فيها بنعيسى بقسط وافر ما دفع “إدارة المؤسسة” إلى اتخاذ قرارها في حقه وبعض رفاقه خلال نفس السنة. حينها سيلتحق أيت الجيد محمد بنعيسى بثانوية “مولاي إدريس”، مواصلا دفاعه عن مبادئه، وتحت ضغط “إدارة الثانوية” على عائلته سينتقل إلى ثانوية “ابن الهيثم” حيث حصل على شهادة الباكالوريا سنة 1986.
الوصول إلى “ظهر المهراز”
التحق محمد بنعيسى بحامعة سيدي محمد بنعبد الله، وتحديدا بكلية الآداب ظهر المهراز، موسم 86 – 87، وكان التحاقه نضاليا بكل المقاييس، ليكمل فيه ما بدأه تلميذا. لم تمر سوى سنة واحدة حتى أصبح اسمه إلى جانب مجموعة من رفاقه، ضمن لائحة الموقوفين (39 طالب) خلال موسم 87 – 88 بكلية الآداب، وهو الإجراء الذي عقب تظاهرة 20 يناير 1988، التي استشهد على إثرها كل من زبيدة خليفة وعادل الأجراوي، كما كان له حضور وزان في مجموعة من المعارك، ومن بينها المعركة الوطنية لمقاطعة الامتحانات لسنة 1989.
خيار النضال باستماتة، سيكلفه ضريبة السجن سنة 1990، إذ تم اعتقاله في شهر يوليوز، ليتم الحكم عليه بثمانية أشهر نافذة، بعدما كان قد قضى تسعة أشهر “بالسجن المدني” بفاس، ليطلق سراحه في أبريل 1991. في السنة نفسها كانت الصراعات في الجامعة على أشدها. ويحكي من عايشوا المرحلة أن الأحكام بتصفية طلبة يساريين كانت قد أصدرت من طرف هيئات الإسلاميين، ومن بين المحكومين عندهم كانت هناك أسماء من بينها بنعيسى، ونورالدين حرير وغيرهم.
يحكي رفاق بنعيسى، أنه بعد أن شُن هجوم على جامعة فاس في 25 أكتوبر 1991، سيتم في بداية نونبر من السنة نفسها، محاصرة منزل بنعيسى بحي المصلى من طرف مجموعة من “الإسلاميين” (مكونة من حوالي 70 شخصا)، تحاول اختطافه قبل أن تفشل المحاولة بعد تدخل ساكنة الحي.
واقعة الاغتيال..
في يوم الخميس 25 فبراير 1993، كان أيت الجيد محمد بنعيسى متوجها إلى حي ليراك بمعية أحد رفاقه (الحديوي الخمار)، على متن سيارة أجرة فتفاجأ بقوى بمجموعة مسلحة مكونة من أفراد عددهم بين 25 و30 تحاصر السيارة وتصرخ “ها هوما الكفار”. يروي الخمار أن بنعيسى خاطبه قائلا “الخوانجية الخوانجية”.
تم إنزال الطالبين من السيارة بالقوة وبدأت مسلسل التعنيف، إذ تكلفت كل مجموعة بأحدهما، وفي لحظة ما يقول الشاهد الوحيد في القضية أن حامي الدين كان يُثبت رأس أيت الجيد، بينما حمل ثلاثة آخرين حجر الرصيف “الطرطوار” وتم إسقاطه على بنعيسى، وهم الكادي توفيق ومحب عمر وكريول عبد الواحد.
يضيف الخمار الحديوي أنه وقع اختلاف بين التابعين لتنظيم “العدل والإحسان” والموالين لتنظيم “التوحيد والإصلاح” حول من له الأحق بقتله ودخول الجنة. كما يحكي أن آخر ما سمعه من آيت الجيد كان هو “مشيت فيها آخويا الخمار”، بعدها ستحظر سيارة الشرطة ليهرب الجناة.
يحكى أن الرفيقين سينقلان في حالة غيبوبة تامة إلى مستشفى الغساني بفاس، حيث ظلا دون عناية طبية، إلى يوم الجمعة صباحا، فيما كان البوليس يحاصر المكان. وفي يوم السبت 27 فبراير نقل أيت الجيد محمد بنعيسى إلى مصحة خاصة للفحص بأشعة سكانير، سيوضح أنه تعرض لكسر بالجهة اليمنى من الرأس ونزيف داخلي. سيبقى على الحال نفسه، وفي صباح يوم الاثنين فاتح مارس 1993 على الساعة الثامنة، لفظ أيت الجيد محمد بن عيسى آخر أنفاسه.
المحاكمة وتزوير الأقوال..
على خلفية وفاته، سيعتقل ثلاثة أشخاص يتقدمهم عبد العالي حامي الدين، وهو الذي أنكر انتماءه بحسب محاضر الشرطة، إلى طلبة التوحيد والإصلاح ليصرح أنه ينتمي إلى فصيل الطلبة القاعديين، فتم تكييف تهمته إلى “المشاركة في مشاجرة نتج عنها وفاة” وتصدر أحكام بسنتين سجنا نافذا لكل من حامي الدين عبد العالي، والرماش عمر المنتمي للعدل والإحسان، ورفيق الشهيد أيت الجيد محمد بنعيسى الخمار الحديوي، الذي تعرض بدوره إلى محاولة الاغتيال.
يحكي الخمار، أنه من داخل السجن، تعرف على حامي الدين وأخبر مدير السجن بأنه من القتلة كما أخبر القاضي، لكن القضية ستطمس بعد ذلك، لينال حامي الدين حريته، قبل أن يعود سنة 2005 للاستفادة من تعويض هيئة الإنصاف والمصالحة، باعتباره اعتقل تعسفا، لكن شوقي بنيوب كاتب التقرير الذي يود حاليا على رأس مندوبية حقوق الإحسان، رد بأن ذلك لا يسقط عن المتابعة.
إحياء القضية
في نهاية سنة 2006، ستعاد القضية من جديد إذ سيتم اعتقال احد المتورطين في اغتيال بنعيسى، وهو عمر محب المنتمي لـ “جماعة العدل والإحسان” وستكون أول مرة ستنتصب فيها العائلة كطرف مدني في القضية، وبعد سلسلة من المحاكمات في كافة أشواطها، ستقرر المحكمة متابعة محب بتهمة “القتل العمد” وستحكم عليه المحكمة بـ 10 سنوات سجنا نافذا والحائزة على قوة الشيء المقضي به. ويقول دفاع أيت الجيد إن هذا الملف هو الذي أسقط التقادم عن اتهام حامي الدين.
في سنة 2012 ستتم متابعة أربعة أشخاص آخرين متورطين في الاغتيال، وحفظ ملف الشخص الخامس الذي هو عبد العالي حامي الدين. وبعد سلسلة من جلسات التحقيق التفصيلي، سيقرر قاضي التحقيق متابعة اثنين بتهمة “القتل العمد”، فيما الشخصين الآخرين سيتابعان بتهمة” المشاركة في الضرب والجرح”، لينطلق مسلسل المحاكمات والتأجيلات، إلى أن أعلن الحكم الابتدائي يوم 16 يناير 2017، ببراءة جميع المتورطين، وهو الحكم الذي تم تأييده في جلسة 21 نونبر 2017 بمحكمة الاستئناف بفاس.
بعد ظهور معطيات جديدة في الملف، ستقرر غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بفاس إعادة عرض القضية من جديد على أنظار التحقيق، وسيتكلف قاضي التحقيق باستدعاء المتهم عبد العالي حامي الدين، الذي تغيب عن جلسات التحقيق التفصيلي ليوم 18 أكتوبر 2017، ويوم 19 دجنبر 2017، ويوم 24 يناير 2018، بدعوى عدم توصله بأي استدعاء للحضور، مبررا ذلك بعدم وجود أي دعوى قضائية بالمحكمة، قبل أن يعود للحضور مرة أخرى يوم الاثنين 05 مارس 2018، وسط دعم ومؤازرة أعضاء الحزب ومن بينهم عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة السابق.
يقول حامي الدين ودفاعه، إن القانون واضح ولا يجب محاكمة الشخص مرتين في القضية نفسها، وأن هناك أطراف “التحكم” تحاول توظيف الملف لمحاصرة الحزب، وأن القضية سياسية وليست قضائية، بينما يجيب دفاع عائلة أيت الجيد بأنها ليست التهمة نفسها، وأن الحديث حاليا عن تهمة القتل العمد وليس التهمة التي حُكم بها حامي الدين سابقا، فيما تعلن العائلة أنها لم تتخلى أبدا عن ملف ابنها حتى تتهم اليوم بدفعها من طرف جهات ما، وأنها مؤمنة بمسار القضاء حتى النهاية وإجلاء الحقيقة.
بين هذا وذاك، تظل قضية الطالب اليساري أيت الجيد بنعيسى، الذي تحوّل إلى رمز عند المناضلين اليساريين، بمثابة لغز يسائل الأجيال عن مدى تقبل الآخر، وعن مدى سيادة القانون وتطبيق عدم الإفلات من العقاب. كما سيبقى بنعيسى في عيون رفاقه شهيدا وشاهدا على مرحلة مهمة من تاريخ المغرب، إلى حين كشف الحقيقة.