ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الخامسة والعشرون: عبد اللطيف اللعبي.. الأديب “مجنون الأمل” الذي قضى ثماني سنوات بالسجن
اسمه ليس غريبا عن محافل الأدب والشعر والترجمة، وهو كذلك ليس غريبا عن السياسة وأحلامها وإخفاقاتها وكواليسها. عاش عبد اللطيف اللعبي وانخرط بكل حماس في الزخم النضالي والثوري لسنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لكنه لم يقتل فيه روح الشاعر المرهفة وانشغالات الكاتب المرتبطة بالإنسان وقضاياه بل أجّجها أكثر فأكثر..
الواقف عند سيرة عبد اللطيف اللعبي، الشاعر والكاتب والمترجم المغربي، لابد أن يجد نفسه أمام سيرة ساحرة ومتناقضة في الآن ذاته، وفي التناقض توجد الحياة، فهو فرنكفوني لا يرتاح له بال، إلا إذا أحيى نصوصه بعربية نافذة، وهو مغربي لا تسلبه أضواء باريسه، إلا لتعيده إلى الرباط، فهو كاتب لا تكتمل نصوصه إلا بوجود توليفة العقل والجنون.
وحتى في أقصى الأماكن التي قد يسود الاعتقاد بأن شروط التفكير فيها منعدمة، كالسجن مثلا، إلا أن اللعبي حوّله بانتصاره للحب والحياة إلى “مدرسة” يتعرف فيها على نفسه أولا، ثم على العالم من خلاله، ولم يغادر أسوار المعتقل إلا وهو محمل بالذكريات، وبخزان من الأفكار والتجارب الإنسانية، أهلته لأن يصير كاتبا وشاعرا عالميا معترفا به، وتترجم أعماله إلى لغات العالم.
في غمرة التأجج النضالي، إبان أواخر الستينات والسبعينات، كان اللعبي مثقفا “عضويا” بلغة بيير بورديو، وكاتبا حوّل الورق الأبيض إلى ساحة حرب تتواصل فيها معركة الإنسان من أجل إثبات أحقيته في الحياة وعدالة قضاياه، كما كان ناشطا في شتى مناحي الثقافة، ومؤسسا لمشاريع وتجارب رائدة في المجلات الأدبية والسياسية والتجارب المسرحية وكذلك السياسية.
اسمه كان حاضرا بقوة، في الساحة السياسية والأدبية بالخصوص، وحتى عندما يتعلق الأمر بالبحث في سيرة شخصية أخرى من سنوات “الجمر والرصاص”، تجد اسم اللعبي حاضرا بشكل أو آخر في سياق الأحداث، إلى درجة أن يخيل للمرء أنه أمام “حدث تاريخي”، وليس أمام إنسان قد يذكر أو لا يذكر..
من تأسيس العديد من المجلات الأدبية، وأبرزها مجلة “أنفاس” الذائعة الصيت، إلى التواجد في واجهة الشعر والمسرح، وصولا إلى الانخراط في ضوضاء السياسة، عبر البوابة الأكثر راديكالية في زمانه “إلى الأمام”، كان اللعبي، القارئ النهم والكاتب الغزير، حينها من أبرز الرفاق إلى جانب أبرهام السرفاتي، وغيره مؤسسي المنظمة السرية، التي سعت إلى قلب نظام الحكم، وكان بذلك شاهدا على لحظات مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر.
ومع أن سيرة الروائي والشاعر والمترجم، هي الغالبة في قصة عبد اللطيف اللعبي، إلا أن من ورائها توجد قصة مناضل تجرّع مرارة السجن والتعذيب، وبقي محاصرا هو وأعماله حتى بعد سنوات من انقضاء تجربة “الحلم والغبار” بتعبير الشاوي. وتعتبر بعض عناوين مؤلفاته، معبرة عن ذلك الرصيد الذي خلّفه وراءه ومن بينها “يوميات قلعة المنفى” (رسائل سجن)، و”مجنون الأمل” و”عندما أزهرت شجرة الحديد”.
القادم من فاس
في عام 1942 ستكون مدينة فاس على موعد مع ولادة عبد اللطيف اللعبي، وهو الطفل الذي تلقى تعليمه الأولي في المدرسة الفرنسية الإسلامية بفاس، وتشبّع في صغره بالثقافة الشفوية لحكواتي الساحات العامة، وقراءاته في الآداب الفرنسية.
عندما نال المغرب الاستقلال، كان عمره وقتها 14 سنة، وكان حينها قد بدأ يتلمس خطواته الأولى في عالم الكتابة. انتقل بعدها من فاس إلى مدينة الرباط والتحق بجامعة محمد الخامس، وشارك في إنشاء المسرح الجامعي المغربي في عام 1963، إلى أن حصل من الجامعة نفسها على الإجازة في الأدب الفرنسي سنة 1964، ليشتغل أستاذا لمادة اللغة الفرنسية في مدينة الرباط.
في عام 1963، سيلتقي جوسلين اللعبي، التي ستصير زوجته في ما بعد، وهي الطالبة القادمة من مكناس، والشغوفة بالمسرح أيضا، ليتزوجا في 1964. منذ تلك الساعة، لن تكون جوسلين الزوجةَ والحبيبةَ فقط، بل كانت حاضرة حتى في أعماله الشعرية، إضافة إلى الدور الكبير الذي ستلعبه في إطلاق سراحه فيما بعد، دون أن ننسى أنها أيضا كاتبة نصوص سردية ومترجمة حكايات مغربية للفرنسية.
في تلك السنوات، وتحديدا في 23 مارس 1965، سيكون اللعبي على موعد حدث سيكون له بالغ التأثير فيه، وهو عندما خرج التلاميذ للاحتجاج ضد قرار وزاري، فامتدت التظاهرات لتشمل باقي الفئات الشعبية، فتدخل الجيش بقيادة أوفقير لإخمادها بالرصاص الحي.
ذكريات “قلعة المنفى”..
وكغيره من أبناء جيله، سينخرط عبد اللطيف اللعبي بحماس في المضمار الثقافي والسياسي، فأشرف على إدارة مجلة “أنفاس” التي أسسها عام 1966، ومنشورات “أطلانط” التي أسسها عام 1969، وهي المجلات التي كانت قِبلة للشباب المثقف والأدباء والمفكرين الطامحين للتحرر، وقد اتسمت بخط تحريري تقدمي وراديكالي جعل الكتاب فيها مطلوبين عند أجهزة الأمن.
بالموازاة مع تحركاته في المشهد الثقافي، سيساهم اللعبي في تأسيس تجربة “إلى الأمام” المنظمة الماركسية اللينينية السرية، بعدما غادر سنة 1970 ما يعرف بحزب التحرر والاشتراكية، كغيره من الكثيرين الذين لم يعد الحزب يستوعب طموحاتهم الثورية.
وبسبب نشاطه الثوري في المنظمة المذكورة، وكتاباته في مجلة “أنفاس” التي سيتم حضرها فيما بعد، سيعتقل عبد اللطيف اللعبي في عام 1972، إلى جانب أعضاء المنظمة، ويتعرض لتعذيب جسدي ونفسي بـ “درب مولاي الشريف”، إلى أن تم سنة 1973 النطق بالحكم فيي حقيه بعشر سنوات سجنا نافذا، في محاكمة كانت التهمة وأداة الجريمة فيها، هي أعداد مجلة أنفاس الكاملة في طبعتيها الفرنسية والعربية.
تحول “اضطراري” في الوِجهة..
بعد قضائه ثماني سنوات سجنا، سيتم إطلاق سراحه شهر يوليو 1980، بعد حملة حقوقية دولية قادتها بالأساس زوجته جوسلين اللعبي، وسيلتحق بفرنسا، ليحصل سنة 1985 على دبلوم الدروس المعمقة من جامعة بوردو، بعدها سيقضي معظم محطات حياته متنقلا ما بين فرنسا والمغرب، مكرسا حياته للقراءة والكتابة في شتى المجالات، إذ صدرت له الكثير من الأعمال. وعبّر عن ذلك بالقول الكِتاب هو ملْجئي الآمن و”خيمتي الأخيرة”.
سنة 2009 ، حاز الشاعر والروائي والكاتب المسرحي عبد اللطيف اللعبي جائزة «غونكور» للشعر عن مجمل أعماله. وبقي اللعبي محافظا على نَفَسه الحقوقي والسياسي، إذ تعاطف مع العديد من الأحداث السياسية، وطالب بإطلاق سراح معتقلي الرأي. سنة 2015 سيتعرض لاعتداء من طرف مجهول هو وزوجته، كاد أن يودي بحياته، لولا تدخل الجيران، إذ طعن على مستوى العنق بسكين من الحجم الكبير.
ذات حوار في السنين الأخيرة، سُئل عبد اللطيف اللعبي، ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟ فكانت إجابته “أنا لا أريد تغييرا أو تغييرات فحسب، بل تحوّلا في الوجهة، في المسار. لكن، ما الفائدة في التبجّح بالأحلام؟ أفضل أن أستمر بعناد في تغيير نفسي”.
رصيد في الكتابة والتأليف
صدر له في الشعر:
“عندما أزهرت شجرة الحديد”، و”سيادة البربرية” (1980)، و”حكاية مصلوبي الأمل السبعة” (1980)، و”مشرق البشرة” (1985)، و”كل التمزّقات” (1990)، و”الشمس تموت” (1992)، و”عناق العالم” (1993)، و”كآبة الدار البيضاء” (1996)، و”مقاطع من سفر تكوين منسي” (1998)، و”قصائد هالكة” (2000)، و”الخريف الموعود” (2003)، و”فاكهة الجسد” (2003)، و”شبيهي العزيز” (2006)، و”محنة حالم معروف” (2008)، و”منطقة اضطرابات” (2012)، و”الفصل الناقص” (2014)، و”مبدأ الريبة” (الصورة، 2016).
وله في الرواية:
رواية “مجنون الأمل”، و”يوميات قلعة المنفى” و”العين والليل” (1969)، و”طريق المِحَن” (1982)، و”تجاعيد الأسد” (1989)، و”قاع الخابية” (2002)، هذا إلى جانب أعمال أخرى في المسرح وأدب الطفل واليوميات.
ترجم اللعبي أعمالا لمحمود درويش ومحمد الماغوط وغسان كنفاني وحنا مينة وآخرين إلى الفرنسية، وأنجز فيها أنطولوجيات، من بينها: “الشعر الفلسطيني المعاصر” (1970/طبعة ثانية 2002)، و”أنطولوجيا الشعر المغربي” (2005).