ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الثالثة والعشرون: عبد الله زعزاع.. مسؤول لوجيستيك “إلى الأمام” أو معركة رجل من اليسار
حكاية عبد الله زعزاع، التي امتدت منذ مرحلة الاستعمار وحتى اللحظة، تعتبر مثالا صارخا على التقلبات السياسية والمنعطفات الكبيرة في حياة المرء، وهو الذي كان معجبا في صغره بالجنرال أوفقير، وتحديدا بنظاراته السوداء، تحول إلى واحد من أبرز قيادات “إلى الأمام” ومازال إلى اليوم يدافع عن من ما يراه سليما من الأفكار والقناعات..
كان عبد الله زعزاع من المحكومين ضمن مجموعة أبراهام السرفاتي في محاكمة 1977 الشهيرة، وكان نصيبه السجن المؤبد مع سنتين بتهمة إهانة القضاء. وكان زعزاع ممن رددوا في قاعة المحكمة الأغنية الشهيرة “لنا يا رفاق لقاء غدا سنأتي ولن نخلف الموعد..”.
قبل أن يشمله الحكم بالمؤبد، الذي قضى منه 14 سنة، نال زعزاع نصيبه وأكثر من التعذيب بـ “درب مولاي الشريف”، حيث وجد نفسه بين نارين؛ نار الحفاظ على أسرار التنظيم الذي كان ينتمي له (إلى الأمام)، حيث كان مسؤولا عن لوجيستيك المنظمة، وعن توفير أماكن الاختباء لأعضائها، ونار التعذيب الذي ازدادت كل ما طال صمته.
عندما اعتقل عبد الله زعزاع، كان يحمل مفاتيح ثلاثة مقرات تابعة للمنظمة، وهو الذي كان مسؤولا عن جميع المخابئ السرية حيث كان ينقل “الرفاق” بينها كلما أحسوا بأن خطر الاعتقال قد اقترب منهم، وتلك المفاتيح كانت سببا في زيادة تعذيبه، إذ لم يستطيع جسده الصمود أكثر، إلى أن كشف موقع المقرات الثلاثة.
من كثرة التعذيب الذي تعرض له، يحكي كيف أن الدماميل بجسده أصبحت متقيحة وتطلق رائحة لا تطاق، كما أنه وهو بدرب مولاي الشريف، لم يكن يقوى حتى على النهوض إلى المرحاض، إذ كان يُحمل من أجل الوصول إليه لقضاء حاجته.
وهو في المعتقل، سيبعث رسالة إلى الملك الحسن الثاني، ستسربها مجلة فرنسية، أراد من خلالها أن يوضح أن هناك من بين المعتقلين من لا يتبنى طرح “الانفصال” فيما يتعلق بقضية الصحراء، كما خاطب فيها الملك قائلا “قد تستطيعون بسلطتكم أن تضعونا في السجون، لكنكم لن تسنطيعوا تغيير آراءنا”.
يعتبر عبد الله زعزاع، ممن واصلوا المشوار السياسي إلى اليوم، إذ بعد خروجه من الاعتقال، سيعود للعمل السياسي، تارة من خلال الصحافة، وتارة أخرى بالعمل الحزبي وخوض تجربة الانتخابات، وأحيانا كثيرة بالدفاع عن المعتقلين السياسيين وحقوق الإنسان وقضايا الأقليات، التي جرّت عليه الكثير من التشهير والإساءة.
عبد الله زعزاع ألّف كتابا عنونه “معركة رجل من اليسار” وفيه يحكي عن تجربته السياسية بمنظمة “إلى الأمام”، وعن أهم اللحظات التي قضاها ضمن أنشطتها، وعن السجن وما عاناه تحت سياط التعذيب وأقبية “درب مولاي الشريف”، وغيرها من الحكايات التي شكلت حكاية رجل آمن بقيم اليسار الراديكالي، في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب.
يتذكر زعزاع في أحد حواراته، أول كتاب تعرّف من خلاله على الفكر الماركسي؛ كتاب فلاديمير لينين “الدولة والثورة”، كما يتذكر أول الاجتماعات التي حضرها في منزل عبد الله المنصوري بحي بنجدية، وهو الذي استقطبه إلى صفوف المنظمة، ليجد نفسه عضوا في أعلى لجنة بالمنظمة. ويحكي عبد الله، أنه كان حينها مستعدا لخوض أي تجربة سياسية وبـ “الصدفة” كانت البداية من أقصى اليسار.
طفولة قاسية في حي “أوروبي”
في ثلاثينات القرن الماضي، شدت عائلة زعزاع الرحال من منطقة أولاد فرج بدكالة إلى الدار البيضاء لتستقر هناك، واشتغل أبوه عطارا ثم فلاحا. وذات يوم من سنة 1945، عندما كانت الحرب العالمية الثانية تحط أوزارها، سيخرج عبد الله زعزاع إلى الوجود في حي “الصخور السوداء”، وهو الذي كان معروفا بالحي الأوروبي، إذ كان المغاربة يشكلون فيه الأقلية مقارنة مع الأجانب.
كان من السهل على عبد الله أن يلمس التناقض بين الحي الذي كان مليئا بالمنازل الفاخرة، وبين منزله الذي كان عبارة عن “برّاكة” بحكم اشتغال والده في الحراسة. عند رحيل عائلته، سيضطر إخوته وأخواته للاشتغال، بينما تم تسجيله في المدرسة الفرنسية، حيث كان في الأول يجد صعوبة في تعلم اللغة، بينما كان مجتهدا في الرياضيات.
يتذكر عبد الله الأحداث التي أثرت به، ومن بينها عندما طلبت منه أمه أن يذهب إلى المدرسة وحده سنة 1952، وكانت الأجواء حينها مشحونة بالتظاهرات المنددة باغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، كما يتذكر كيف كان يتعرض للاستفزاز من طرف التلاميذ الفرنسيين، الذين كانوا يردّدون “يحيى بن عرفة” و”يسقط بن يوسف”، كما يتذكر أيضا طوابير اليهود البؤساء وهم يغادرون الدار البيضاء وحسرة أمه عليهم.
في سنة 1953، سينتقل من الحي الأوروبي إلى درب السلطان. وبعد الاستقلال سيتعلم اللغة العربية في المدارس الوطنية، كما أنه اطلع على معاناة الفلاحين عندما كان يزور البادية التي عادت إليها عائلته، ليبقى مع أخيه في البيضاء، حيث كان يشاهد معاناة الفلاحين وكدحهم من أجل تحصيل لقمة العيش، كما كانت ذاكرته آنذاك تسجل الأحداث السياسية، رغم عدم قدرته على تحليلها.
عندما نضج وبلغ سن الثامنة عشر من عمره، بدأ يبحث عن عمل، إذ سيلتحق بالمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب سنة 1965، وحينها سيبدأ وعيه السياسي في التفتق أكثر فأكثر، من خلال دخوله في نقاشات مع زملائه العمال، الذين كان يصفه أحدهم بـ “الشيوعي”.
في تلك السنة، سيبدأ في المشاركة في المعارك النقابية مع الاتحاد المغربي للشغل، كما شارك في التظاهرات عقب اختطاف المهدي بن بركة، وتأثر كثيرا بهزيمة الجيوش العربية سنة 1967، كما تأثر بانتفاضة الطلاب في ماي 1968.
منعطف اليسار
كل تلك الأحداث ستشكل خزانا في ذاكرة عبد الله زعزاع، ما دفعه إلى البحث عن تيار سياسي يستوعبه، وهناك سيتعرف على عبد الله المنصوري، وفي بيت هذا الأخير، سيجد نفسه عضوا في اللجنة الوطنية لمنظمة إلى الأمام منذ الندوة الوطنية الأولى، ومسؤولا عن العمل وسط الطبقة العاملة بالدار البيضاء، والمسؤول الأول عن الجوانب اللوجستيكية، كتوفير المنازل السرية ونقل الأجهزة والوثائق ونقل الرفاق.
استمر في مهامه داخل المنظمة بكل حماس، وتوطدت علاقته بها أكثر فأكثر. وذات يوم بعد تصاعد الاعتقالات، كان عبد الله على موعد مع عبد العالي حاجي، الذي سبق للمنظمة أن اتخذت في حقه قرار التجميد، بعدما رفض الانضباط لقرارات أمنية، تتعلق بالحفاظ عليه من الاعتقال، لكنه كان مراقبا من طرف الشرطة التي وضعت عبد العالي كطعم.
وبينما يهم بصعود الحافلة بالقرب من ساحة مارشال، تجمّع حوله رجال الشرطة بالزي السري، وأسقطوه أرضا ووضعوا القيود في يديه يوم 28 يناير 1975، ليساق إلى “درب مولاي الشريف”، حيث سيعاني التعذيب، لينقل بعدها إلى السجن المركزي بالقنيطرة، بعد الحكم عليه بالمؤبد، إذ سيقضي هناك 14 سنة من الاعتقال، قبل أن يأتي العفو الملكي سنة 1989.
ما بعد سنوات السجن..
على الرغم من خروجه من السجن بالعفو الملكي، لم يسلم عبد الله زعزاع في كل مرة من الاستجواب لساعات من طرف الأمن، الذي ظل واضعا عينه عليه، إذ تم استجوابه وهو يريد رخصة السياقة، وكذلك عندما أراد جواز السفر، ومع ذلك سيستمر في الدفاع عن المبادئ الإنسانية، وسيعمل على تأسيس مجموعة من الصحف، وكلما أغلقت أحدها بسبب مواقفها يؤسس أخرى.
ومن بين الجرائد الأسبوعية التي أسسها عبد الله زعزاع، أسبوعية “المواطن” التي تم إغلاقها، ثم أسبوعية “المواطن اليوم”، كما سيحظى عبد الله زعزاع باحترام أبناء درب الميتر بحي بوشنتوف، وخاصة الزنقة 9، وسيواصل بعد مغادرته السجن، نضاله من أجل القيم التي آمن بها، وشجعه على ذلك التزام أبناء الحي، الذين أقنعوه بالترشح للانتخابات الجماعية والتشريعية في 1997، والذي تم باسم منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، كما سيترشح للبرلمان أيضا.
وظل عبد الله زعزاع متشبثا بقيمه، وبضرورة الانتصار للديمقراطية، حيث كان مشاركا في احتجاجات حركة 20 فبراير إلى جانب الشباب، وساند قبلها حركة “مالي”، كما ساند حزب الاشتراكي الموحد في انتخابات 2015، ومازال إلى اليوم وعمره يناهز الـ 75 سنة يشارك بين الفينة والأخرى في الأحداث الحقوقية، ويطالب بإطلاق سراح المعتقلين.