ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الثانية والعشرون: عبد الفتاح الفاكهاني.. يساري “إلى الأمام” حكم بالمؤبد وأنهى مساره صحفيا
قبل أن يكون عبد الفتاح الفاكهاني صحافيا وكاتبا مشهودا له، كان عازفا محبا للموسيقى والفن التشكيلي، وقبلهما رجلا عاش محملا بمآسي سنين طويلة قضاها وراء القضبان. وعلى الرغم من تعرضه لبشاعة التعذيب، الذي بقيت آثاره ظاهرة، لم تتلوث روح الفاكهاني المرهفة المسكونة بالإيمان وبالعدالة وحس التفائل بالآتي، رغم الظلام الذي يخيم على ماضيه.
كان الفاكهاني، وهو أحد أبرز قادة المنظمة السرية “إلى الأمام”، من الذين رفضوا أن يتسلموا أي تعويض من هيئة الإنصاف والمصالحة، على الرغم من أنه عاش ظروفا صعبة بعد خروجه من السجن، وكان جوابه واضحا على من اقترحوا عليه تقديم ملفه، كونه لم يختار طريق النضال في البداية من أجل نيل التعويضات.
غادر عبد الفتاح الفاكهاني السجن، بعد ما يناهز 15 سنة على إثر عفو ملكي “لم يطلبه”، لكن السجن لم يغادر الفاكهاني، بل ظل يسكنه إلى حين مفارقته الحياة، كانت سنوات طويلة وأثقل من أن تنسى، خصوصا أنه كان من الذين قضوا أزهى فترات حياتهم وراء القضبان وتحت سياط التعذيب.
خلفت سنوات السجن الكثير من الألم في نفسيته، وهو الذي وصف المشهد عند الخروج من السجن في روايته الممر قائلا «هناك أناس كثيرون في المدينة. أشعر بالخوف. كيف يمكن أن أشق طريقي بينهم؟ في أزقة مراكش المكتظّة، أمشي بخطوات بطيئة خشية أن أصطدم بالمارة».
قضى الفاكهاني تجربته النضالية غير باحث عن الأضواء، إذ قال فيه إدريس ولد القابلة إنه “كان أقل كلاما من باقي رفاق دربه، لكنه أكثر تحركا على أرض الواقع.. كان يولي الأولوية لـ “البراكسيس” أكثر من “الهضرة” رغم أنه كان خطيبا ممتازا.. تميز بعتاده النضالي، النظرية الصلبة.. ظل “جلموديا” في هذا المضمار..”.
يصفه من عايشوه بأنه ظل حريصا على نظافة سجله وعلى نقاء المسار الذي اختاره، وأدى ضريبته في كل منعطفات حياته، وهو الذي فضل أن يخوض مسارا ثوريا على أن يعيش حياة مستقرة مع زوجته، كما أنه كان يتفادى الخوض في صراعات كيفما كانت، ويتجلد في مواجهة من يسيؤون له بالصمت، كان إنسانا هادئا يزن الكلام، كما ظل مناضلا صلبا في حقل الممارسة السياسية، الذي لم يبتعد عنه إلا عندما وجد فيه ما أفقده معناه، ففضل أن يواصل معركته الآنسانية من مضمار العمل الصحافي والتأليف الأدبي.
عبد الفتاح الفاكهاني بقي من بين الأسماء اللامعة في تاريخ المغرب المعاصر، يجمع كل من عرفه على هدوئه وخصاله الإنسانية وروحه المرحة التي تشكلت في دروب مدينة مراكش، وحتى عندما كتب عن تجربته لم يحاول إضفاء الإثارة أو صناعة نموذج البطل الذي لا يقهر، بل كتبها بصيغة ساردة للأحداث وكأنه يحكي فيها عن أحد غيره، وكانت مثالا للسيرة الأقرب إلى التجرد، وقد اختار لروايته الممر، بطلا يحاول أن يجرب العيش في المجتمع بعد تجربة الاعتقال.
أثناء تجربة الاعتقال، يحكي رفاقه كيف أنه كان يخفف عنهم وطأة الجدران الإسمنتية، بالأهازيج والأغاني الغوانية، وعند تم السماح بإدخال الآلات الموسيقية، ازدادت تلك اللحظات تميزا، إذ كان يعزف الأناشيد والأغاني الملتزمة، وإلى جانب ذلك استمر في عملية النقد الذاتي لتقييم تجربته..
من النضال داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، حين كان ينتمي لتنظيم “الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين”، إلى الإنخراط في المنظمة الماركسية اللينينية “إلى الأمام”، والكتابة في مجلة “أنفاس”، إلى اجتياز سنوات طويلة بالسجن وقبلها بالمعتقل السري درب مولاي الشريف، وصولا إلى مواجهة حياة ما بعد الاعتقال. هكذا أمضى الفاكهاني حياته التي لم تجتز العقد السادس من معركة إلى أخرى.
من مراكش إلى العاصمة..
بمدينة مراكش الحمراء، فتح عبد الفتاح فاكهاني عينيه أول مرة عام 1949، وسط عائلة محافظة متدينة، إذ كان والده إماما بمسجد درب دباشي، وفي المدينة نفسها تلقى تعليمه الأولي، وعندما وصل إلى مرحلة الثانوي، ودخل ثانوية محمد الخامس باب اغمات في شعبة اللغة الفرنسية، بدأ وعيه السياسي يتشكل أكثر فأكثر، وسط مناخ متميز بانتشار ثقافة اليسار.
بعد أن أنهى دراسته الثانوية، التحق الفاكهاني بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ليدرس بشعبة الفرنسية، وكان من رفاقه في الدراسة آنذاك، الراحل ادريس بنزكري، وهناك برز اسمه كواحد من أبرز القادة “الأوطاميين”، إذ انخرط في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغربة، وفي التنظيم الطلابي الماركسي اللينيني، الذي يعرف باسم الطلب الجبهويين.
وفي بداية السبعينيات، أصبح الفاكهاني أحد أبرز مؤسسي حركة “إلى الإمام” اليسارية، التي كانت أبرز الحركات السرية اليسارية في المغرب وقتها. وحين أكمل دراسته، دخل المدرسة العليا للأساتذة، قسم اللغة الفرنسية، ليتخرج منها أستاذا لنفس اللغة، ويتم تعيينه بمدينة خريبكة.
محنة الاعتقالات..
في تلك المرحلة، سيستمر إلى جانب اشتغاله أستاذا في نشاطه السياسي والنضالي بالمنظمة المذكورة، والكتابة في مجلة “أنفاس” إلى جانب أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي وغيرهما، إلى حين اعتقاله الأول يوم 8 مارس 1972 أمام تلاميذه، وهو يحمل الطباشير في يده، ليقضي ما يناهز سنة من الاعتقال قبل أن يفرج عنه.
عاد الفاكهاني إلى العمل السياسي مرة أخرى، وأثناء حملة الاعتقالات التي شنت من أجل القضاء على التنظيمات الثورية، سيتم اعتقاله مرة ثانية في أحد أيام عام 1975، إلى جانب رفاق آخرين من حركة “إلى الأمام”، ليقضي عامين تحت التعذيب في “درب مولاي علي الشريف” دون محاكمة، قبل أن تنطق المحكمة في حقه بالسجن المؤبد، بتهمة محاولة “المس بأمن الدولة ومحاولة قلب النظام”، أضيفت لها سنتين بتهمة إهانة القضاء وغرامة مالية خمسة آلاف درهم.
أمضى 15 سنة سجنا قبل أن يأتي العفو الملكي سنة 1989 ليعانق الحرية من جديد يوم 7 ماي من تلك السنة، وعندما غادر السجن مفلسا وبلا عمل، فكر في الغرامة وتنفس الصعداء: «لحسن الحظ أنني لم أعد مطالبا بدفع الخمسة آلاف درهم لمحكمة الدار البيضاء، لقد أسقطها العفو الملكي الذي لم أطلبه».
ولوج مهنة “المتاعب”
بعد انقضاء سنة واحدة بعد الإفراج، تزوج عبد الفتاح من خديجة التي رزق منها بمولود وحيد هو أنس، واختار أن ينطلق في حياته بعيدا عن السياسة، إذ اختار ممارسة الصحافة وكانت البداية مع جريدة “العلم” لسان حزب الاستقلال، التي اشتغل فيها قرابة أربعة سنوات بقسم الترجمة، وقد كان معروفا بإتقانه أربع لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية.
بعد خلاف مع رئيس تحرير “العلم” قرر الفاكهاني أن ينهي مساره مع الجريدة مقدما استقالته، وبعد عام من العطالة، وباقتراح من خالد الجامعي سيلتقي مع الصحفي الفرنسي إنياس دال الذي كان مديرا لمكتب الوكالة الفرنسية للأنباء (أ.ف.ب)، وبعد اجتيازه اختبارا، سيشتغل بالوكالة التي أنهى فيها مساره.
وزّع عبد الفتاح وقته بين الوكالة والأسرة الصغيرة والقراءة والكتابة، لكن مهنة المتاعب لم تترك له وقتا أكثر لإكمال مشاريعه الكتابية، إلى أن لفظ آخر أنفاسه يوم 18 يونيو من سنة 2009.
“البوح” الروائي..
كتب عبد الفتاح الفاكهاني رواية قصيرة تحت عنوان “البئر”، نشرها عام 1984 وهو مازال رهن الاعتقال؛ وبعد فترة السجن ألف رواية باللغة الفرنسية تحت عنوان “الممر: حقائق عن سنوات الرصاص”، التي كتب مقدمتها الصحافي الفرنسي إنياس دال، صاحب كتاب “الملوك الثلاثة” والذي كان يعمل وقتها مديرا لمكتب وكالة الأنباء الفرنسية.
في روايته الممر، يحكي عبد الفتاح بكل واقعية عن مساره السياسي وعن الاعتقال، متحدثا بسلاسة تاركا، للأحداث أن تحكي عن نفسها، وهي الرواية التي بث فيها جزءا من الآلام التي عاناها طيلة حياته، وبغير تمجيد يحكي عن لحظات انهياره تحت التعذيب في “درب مولاي الشريف” معترفا بالأسماء والعناوين، معبرا عن ذلك «لم أعش في حياتي إهانة كهاته. الأنكى أنني أنا شخصيا من ألّف منشورا صغيرا حول الصمود أثناء التعذيب!». وحينما سأله ابنه في نهاية الكتاب: «هل ترى اليوم أن الأمور صارت أفضل؟»، ردّ عليه بلا تردد: الحرية أفضل شيء في الحياة يا ولدي..
تجربة اعلامية متميزة