عبد اللطيف زروال.. مُسقِط الأقنعة وسِيرةُ “الحب والموت”
ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأحمر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الرابعة: عبد اللطيف زروال.. مُسقِط الأقنعة وسِيرةُ “الحب والموت”
من حُب شعر صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني، إلى الانشغال بالأدب والروايات العظيمة وحفظ مقاطعها، وصولا إلى الانصهار مع نصوص الفلاسفة الكبار وتشرب معانيها، ثم إلى العمل السياسي والتنظير والنضال الجماهيري والتنظيمي، هكذا كانت حياة عبد اللطيف زروال التي لم تمتد سوى 23 سنة وستة أشهر.
وعلى الرغم من ترجله عن صهوة الحياة وهو مقتبل العمر، إلا أن اسم عبد اللطيف زروال استطاع أن يحتل حيزا هاما، وهو الذي كتب عنه السرفاتي “زروال معلمي”، إذ إنه بقي من الأسماء الراسخة عبر السنين والأبية على النسيان، في تاريخ ما عرف بـ “اليسار الماركسي اللينيني” بالمغرب، ذلك أنه استطاع أن يحجز لنفسه مكانة مرموقة بين معارفه وأن يكون مؤثرا في وسطه.
وتبدو شخصية زروال، الذي اشتغل أستاذا للفلسفة، وكأنها نقطة التقاء لكل الأشياء التي يمكن أن تجعل من الإنسان محبوبا في وسطه ومؤثرا وقياديا، حس عالي من المسؤولية، كاريزمة قوية، انضباط ذاتي والتزام بالمواعيد، تقدير للأخرين، روح النكتة والدعابة، وإحساس مرهف وشاعري، وقدرة فائقة على التحليل، هكذا وصفه بتلخيص من عاشوا معه وكانوا قريبين منه.
كل ما كتبه زروال من أشعار ونصوص تمت مصادرته عند اقتحام مقرات منظمة “إلى الأمام”، إبان حملة الاجتثاث التي شنتها السلطات آنذاك، ولم تتبقى له سوى قصيدة بعنوان “عن الحب والموت” كان قد نشرها له أستاذه في إحدى المجلات بعد ما أُعجب بأسلوبه، وبضع رسائل؛ منها رسالة إلى أبيه الذي لم يكن يستطيع رؤيته بسبب السرية، يقول له فيها ضمن ما يقول “آسف يا أبي لكنك صنعتني ثوريا”.
زروال عبد اللطيف، الذي مازال قبره مجهولا إلى اليوم، قيادي بارز في منظمة “إلى الأمام”، وهناك إجماع من الكثيرين، أنه صاغ أغلب وثائقها السياسية وساهم في التنظير لها طيلة مدة انخراطه وإلى حين وفاته يوم 14 نونبر 1974، فأسلوبه في الكتابة لم يكن خافيا على من عاشوا معه عن قرب، ولأن العمل الجماعي كان مبدأ تنظيميا لدى المنظمة فإن أغلب كتاباته لم توقع باسمه.
لم يحدث أبدا، بحسب شهادات “الرفاق”، أن تأخر عبد اللطيف زروال عن اجتماع أو موعد أو تظاهرة، وعندما تأخر ذات يوم كان ذلك بسبب اعتقاله واختطافه إلى المخفر السري “درب مولاي الشريف”، بعدما كان على موعد مع رفيقه أبراهام السرفاتي، وأمام رفضه الإدلاء بالتصريحات والاعتراف، توفي بعد تسعة أيام من إيداعه المخفر..
من برشيد إلى سماء الشعر والسياسة
بمدينة برشيد، وفي يوم 15 ماي 1951، استقبل كل من عبد القادر زروال وفاطمة البصراوي مولودا جديدا، فاختارا له من الأسماء عبد اللطيف.. كان الأب مقاوما للاستعمار وعلى اتصال وثيق بأعضاء جيش التحرير، كما كان مسؤولا بحزب الاستقلال بمنطقة اولاد حريز واعتقل إثر نشاطه مع عدد من أفراد أسرته ليبعد إلى البيضاء.
تابع عبد اللطيف دراسته الابتدائية ببرشيد، ثم درس الإعدادية بالدار البيضاء، ثم الثانوية بمدارس محمد الخامس بالرباط، التحق بعدها سنة 1968 عن سن يناهز 17 سنة بكلية الآداب بالرباط ليدرس الفلسفة، وبعد حصوله على شهادة الإجازة، التحق بعدها بمركز تكوين الأساتذة ليتخرج أستاذ لمادة الفلسفة بسطات.
تشبّع زروال بالشعر والأدب كثيرا، كما كان محبا للسينما والأفلام، ويُحكى أنه كان قارئا متعطشا وفاحصا للكتب، ما جعل شخصيته تتغذى من معين الأدب والشعر من جانب ومن جدال السياسة وأطروحاتها، ومن جانب آخر من الثقافة الشعبية بالمغرب، إذ حكى رفاقه أنهم كانوا يتعرفون على الطبقات الشعبوية.
“مُسقط الأقنعة” و”فاتح الطريق الثوري”
ولأنه ابن أسرة مقاومة، وعاش في وسط استطاع أن يتعرف من خلاله على أوضاع الشعب وما يعانيه، بعد الاستقلال الذي كان الجميع يعلّق عليه آماله، آمن زروال بضرورة التغيير، فبقي طيلة مسيرته القصيرة يبحث عنه، بداية من ارتباطه بجماعة أنيس بلافريج، والنضال في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، في مرحلة تسلم اليسار الجذري قيادة المنظمة.
سنة 1970 سينتسب عبد اللطيف زروال لمنظمة “إلى الأمام” الثورية، وكان سنه آنذاك لا يتجاوز 19 سنة، ثم سيصبح ضمن الكتابة الوطنية في المنظمة التي كانت تسعى إلى قلب نظام الحكم وإقرار نظام بديل.
أثناء عمله التنظيم، صاغ عبد اللطيف زروال العديد من المفاهيم التنظيمية، كما كان مدافعا شرسا عن الوحدة بين التنظيمات المنضوية تحت لواء الحركة الماركسية اللينينية، وكان مساهما في صياغة بيان “سقطت الأقنعة فلنفتح الطريق الثوري” وبيان “فلنبني الحزب الثوري تحت نيران العدو”، وغيرهما من المقالات..
مع تصاعد حملة الاعتقالات في سبعينات القرن الماضي، سيكون زروال على رأس قائمة المطلوبين، وأمام لجوئه للاختباء والعمل السري سيحكم عليه بالمؤبد غيابيا حلال محاكمة الدار البيضاء سنة 1973، ليتم اعتقاله بعدها عندما كان قد رتب لقاء مع السرفاتي بملتقى شارعي الزيراوي والزرقطوني بالبيضاء.
فور تأكد خبر اعتقاله، ساد شبه اقتناع بين رفاقه حسب ما يحكون بأنها ستكون نهايته، ويروي مصطفى خلال في أحد الحوارات كيف أنهم أخذوه إلى زنزانة زروال ليتعرف عليه، فوجده مرميا على الإسفلت بدون غطاء أو فراش ولا يقوى على الحركة، وعندما رآه أنكر معرفته به، كما أنه خلال فتره اعتقاله، وبحسب ما حكي عنه، لم يبح بكلمة واحدة عن الأسرار التنظيمية..
القبر مجهول والجلاد معلوم..
عبد اللطيف زروال، وبسبب التعذيب الذي تعرض له، والذي وصف بالوحشي، سينقل لمستشفى ابن سينا بالرباط تحت اسم مزور، ليفارق الحياة بعد يوم واحد، يوم 14 نونبر 1974، لتكون بذلك فترة اعتقاله قد استمرت لتسعة أيام فقط.
وعلى الرغم من مرور كل هذه السنين، مازالت عائلة عبد اللطيف زروال تطالب بالكشف عن قبر زروال المجهول لحدود الفترة الحالية، وباسترجاع رفاة ابنها، ومحاسبة المتورطين في قتله، ورغم توصيات الهيئة الاستشارية لحقوق الإنسان آنذاك، إلا أن ذلك لم يتم، ورغم تحريك الدعوى من طرف هيئة دفاع بتنسيق من طرف النقيب عبد الرحمان بنعمرو، إلا أن القضية لم تتحرك أبدا، باستثناء رواية رسمية قديمة تُرجع الوفاة إلى سبب طبيعي.
وتتهم عائلته ورفاقه، من تصفهم بالجلادين (قدور اليوسفي وبوبكر الحسوني)، حيث سبق أن وُضِعت شكاية رسمية في حقهما ومن تورط معهما، وقد حكمت محكمة النقض مرتين بأن جريمة الوفاة لم يطلها التقادم ويجب فتح التحقيق، دون جدوى، يحكي الساهرون على الملف.
زروال مخاطبا أباه..
كانت هذه آخر رسالة توصل بها أب عبد اللطيف زروال من ابنه: “سلم على أمي وعلى أختي التي تركت عندها جنينا لست أدري هل وضعت أم لا؟ أهو ذكر أم أنثى؟.. اعذرني يا والدي العزيز لقد صنعتني ثوريا. لقد كان بودي أن أعمل إلى جانبكم لأساعدكم على الرفع من مستوى عيش الأسرة. لكن يا أبي صنعتني ثوريا. أنت الذي صنعتني ثائرا يا أبي… وضعية الفقراء في بلادي، إني أرى الفقيرات من بنات وطني يتعيشن من شرفهن… وضعية بلادي لم تتركني أساعد الوالدين والأسرة والإخوة للرفع من مستواهم المعيشي، صنعتني ثائرا”.