لأن تصبح الرواية مطية لاسترجاع الأمكنة!
واسيني الاعرج – الرواية شيء مهم، لها عالمها واستقلاليتها، لكنّها كثيراً ما تصبح مطية حقيقية لشيء أكبر منها.
كل شيء حدث في هذا الصيف الجميل.. بحر وعائلة، وقليل من الراحة بعد سنة مثقلة بالعمل، الأجمل في هذا كله هو إخراج رواية: «الغجر يحبون… أيضاً»، في عز الصيف، وتحت حرارة تجاوزت الأربعين درجة، على غير العادة، إذ إن الفترة الأجمل لصدور رواية تكون عادة مع الدخول الاجتماعي والأدبي، شهر أكتوبر.
كان إطلاق الرواية في وهران، أي في المدينة التي استعارتها الرواية لأحداثها، في حقبتها الإسبانية.. لم يكن الجمهور المكون من أصدقاء أكاديميين، وقراء بسطاء، وطلبة، وإعلاميين، مخيباً مطلقاً، فقد احتضن الرواية بحب كبير.
لم أكن المندهش الوحيد من هذا الكرم الثقافي الوهراني، فقد كان كذلك غارسيا لوركا، زبانا، خوسي أورانو، أنجلينا أموندين، خمنيث، غارسيا بيكينيو، هيلينا، نور، ومادري، زباطا، الأب مارسيل، محمد، إزميرالدا، سيفاكس إيدير، روكا نيغرا، مويرتي، نافارو، وغيرهم من شخصيات الرواية، أكثر فرحاً مني.
لم أتصور أن يكون اللقاء بتلك الحميمية.. مؤمن بأن من أجمل لحظات العمر وأصعبها اللقاء مع القراء، فلقد قضيت جزءاًمن عمري أنسج أجمل العلاقات مع قراء لم يكونوا إلا افتراضات هلامية ولغة هاربة، قبل أن يتحولوا إلى حقيقة ملموسة، أتلمس من خلالها الطاقة الإيجابية التي تخلقها رواية في قلوب القراء.
في الجلستين، في وهران، فوروم الجمهورية وحلبات الكوريدا، كان هذا الجمهور حاضراً وجميلاً، الكثير منهم جاؤوا من الولايات (المحافظات) المجاورة متحملّين عناء السفر، بقوا واقفين من العاشرة صباحاً حتى الثانية بعد الزوال، للحصول على نسخة موقعة، وللأسف بعضهم لم يحصل عليها لنفاذ النسخ المخصصة للجمهورية، لكن ما أراحني، هو أن القراءة ببعض الخير وأن الوضع ليس درامياً بكل ذلك القدر.
الجلسة المسائية تمت في مكان آخر.. ساحة الثيران أو كوريدا وهران، كما تسمى، أي المكان بالضبط الذي تدور فيه وقائع الرواية، الذي ظل مغلقاً منذ أكثر من نصف قرن، زرته من قبل وكتمت حزني، فكيف لمكان بهذه القيمة وجزء من تاريخ وهران، أن يطمس بهذا الشكل؟، وحلمت أن أطلق الرواية من هناك، وحدث الذي لم أتصوره، فقد تم اللقاء في كوريدا، وكان بطعم التاريخ، رأيت الشخصيات حقيقة في كل مكان من أمكنة الكوريدا.
اندهش الحاضرون من المَعلم الذي يفتح لأول مرة أمام الجمهور بعد استعادته ثقافياً وترميمه، تخيلوا ملعباً يستوعب أكثر من عشرة آلاف محب لرياضة مصارعة الثيران؟، لا شيء يمنع من تأهيله ليصبح مكاناً لرياضة الملاكمة مثلاً، للعروض المسرحية التراجيدية تجديداً، للحفلات الموسيقية وغيرها، فوق هذا، هو مكان تاريخي يزخر بأصوات الذين مروا من هناك.. كيف يمكن لرواية أن تهزم أثقال الرماد الذي طمس ذاكرة المكان؟، يمكن أن تصبح الرواية مطية لاستعادة الأمكنة الغائبة افتراضاً أو حقيقة.