هكذا فقد المغرب السيطرة على النقل البحري
بالموازاة مع السخط العارم في أوساط الجالية المغربية، المصاحب لإعلان السلطات المغربية فتح الحدود وانطلاق عملية “مرحبا 2021″، بسبب الغلاء المبالغ فيه لتذاكر النقل، لاسيما النقل البحري، تناسلت مجموعة من الأسئلة حول الأسباب التي تقف وراء هذه النتيجة، التي تهدد عائلات مغربية بالتخلي عن فكرة زيارة الوطن كما اعتادت من قبل.
الجزء الأكبر من هذه الأسباب، يرجع إلى حقيقة صادمة، تؤكد أن المغرب لا يتوفر على سيادة في مجال النقل البحري، سواء تعلق الأمر بتواجد للاستثمارات العمومية للدولة المغربية، أو باستثمار الشركات الخاصة المغربية، وأن المجال مُحتكَر بالكامل من طرف الشركات الفرنسية والإيطالية والإسبانية، التي تحدد الأسعار وترفعها كما تشاء لتعويض خسائرها من تداعيات الجائحة.
وفي غياب أي تدخل للسلطات لتأمين إحدى أكبر عمليات الهجرة التي يشهدها العالم، وحماية الجالية المغربية، التي تعد أحد أبرز مكونات المجتمع المغربي وإحدى أهم مصادر العملة الصعبة، تجد ألاف العائلات المغربية المقيمة بالخارج نفسها أمام عملية ابتزاز علنية تمارسها الشركات الأجنبية في غياب منافسة وطنية، وغياب أي إجراءات حكومية لتدارك هذا القصور.
وتذهب العديد من التقديرات إلى أن تفريط المغرب، بقطاعه العام والخاص، في سيادته على مجال النقل البحري، الذي يعد وجها من أوجه السيادة الوطنية وفقدانه لأسطوله، لم يكن إلا نتيجة لسياسة بدأت بالخوصصة وانتهت بالاختلاسات والتلاعبات المالية والإدارية، فكانت النتيجة فقدان السيطرة على قطاع النقل البحري الذي يغطي أكثر من 95 في المئة من مجموع المبادلات الخارجية للمغرب، ويساهم في نقل الجالية المغربية المقيمة بالخارج.
مرحلة السيادة المغربية
اعتاد المهاجرون المغاربة المقيمون بالخارج، طيلة سنوات ماضية، على العودة إلى المغرب عبر الأسطول البحري المغربي، سواء الخاص أو العام، والذي كان يغطي كافة الخطوط البحرية التي تربط الموانئ المغربية بموانئ أوروبا، قبل أن يصبح هذا الأسطول في خبر كان خلال العشرة سنوات الماضية، بعدما تمت تصفية الشركات المغربية التي دخلت أزمة خانقة، شُرِد على إثرها ما يربو على ستة ألاف عامل مغربي.
تحكي المصادر أن الأسطول المغربي مر بفترات نجاح باهر طيلة سنوات، فمنذ الاستقلال كان مجال النقل البحري بالمغرب مشتركا بين شركتا “كوماناف” و”ليماديت فيري”، واللتين يتم تعزيزهما بشركة “كوماريت” سنة 1983، والتي تعود ملكيتها إلى عبد العالي عبد المولى وعائلته وشركائه، هذا الاسم الذي سيتكرر ذكره كثيرا في هذا الملف.
المنعطف الخاطئ..
مع توالي السنوات والنجاحات الباهرة التي حققها القطاع الخاص، قررت الدولة المغربية التخلي عن شركة “كوماناف” عبر تفويتها لمجموعة CMA CGM الفرنسية، سنة 2007، مقابل 200 مليون أورو، على أن يتم الالتزام بأنشطة استثمارية باسم الشركة عبر شراء بواخر جديدة وتطوير طرق عملها، وفقا لدفتر تحملات الخوصصة.
النتيجة التي كان المغرب يصبو إليها لم تحقق، ذلك أن المجموعة الفرنسية ستعيش هي الأخرى أزمة مالية، مرتبطة في جزء منها بالأزمة العالمية لسنة 2008، لتقرر تفويت نشاط النقل التجاري البحري، الذي كان يمارسه فرعها “كوماناف”، إلى شركة “كوماريت” المملوكة لعائلة عبد المولى، بهدف تركيز أنشطتها على النقل البحري للبضائع واستغلال المحطات المينائية.
جاء ذلك بعدما قرر عبد المولى توسيع نشاطه واحتكار الأسطول المغربي، فبعد شرائه أسهم شريكه النرويجي فريد أولسون، سنة في سنة 2007 تحديدا، ب70 مليار سنتيم، مع أن قيمتها لم تتجاوز 30 مليار، تقدم بعرض لشراء “كوماناف فيري” التي انبثقت عن الشركة الأم “كوماناف” التي تمت خوصصتها.
الشركة اقتناها عبد المولى من شركة CMA CGM لرئيسها جاك سعدي الفرنسي من أصل لبناني، بثمن قدره 55 مليون درهم يضاف إليها 320 مليون درهم كرأسمال عامل، أي حوالي 80 مليار سنتيم. وساهم في تمويل الصفقة كل من البنك الشعبي وقرض مباشر من شركة جاك سعدي قدره 170 مليون درهم.
الانهيار الكبير..
بعد الصفقات التي أجراها عبد العالي عبد المولى وأبناؤه، والتي اعتمدت مجموعة من القروض، أصبحت شركته مدينة للبنك الشعبي بمبلغ 555 مليون درهم، يضاف إليه 320 مليون درهم كرأسمال عامل، علاوة على 700 مليون درهم قيمة شراء عبد المولى لأسهم ألسون والتي كانت من تمويل القرض الفلاحي ومصرف المغرب، أي أن عبد العالي عبد المولى أصبح مدينا بما مجموعه مليار و577 مليون درهم.
مع دخول الشركة في نفق الديون التي لا تنتهي، وعوض أن يعمل مسؤوليها على تعزيز نشاطها وموقعها عبر الاستفادة من سيطرتهم على السوق، شرعت الشركة في التهاوي، عبر تسجيل مجموعة من الاختلالات المالية الناتجة عن ضعف التسيير من جانب والاختلاسات المالية.
وتفيد المعطيات أن أبناء عبد المولى قاموا بخلق مجموعة من وكالات الأسفار بدول أوروبية، من ميزانية “كوماناف فيري”، غير أنهم كانوا يحولون مستحقات التذاكر إلى حساباتهم الخاصة، وكذلك فعل والدهم، كما أن المداخيل التي كانت مخصصة لشركة “كوماناف فيري” كانت تحول إلى حساب شركة “كوماريت” من أجل تحسين وضعيتها على حساب “كوماناف فيري”،
سلسلة من الأخطاء انتهت بإرهاق ميزانية الشركة ودفعها للإفلاس، عبر إثقال الشركة بالديون والاختلاسات المالية والاستثمارات الخاطئة، مما دفع توفيق الإبراهيمي، مدير الشركة، إلى محاولة السيطرة عليها وسحبها من عائلة عبد المولى، بعد وضع خطة محكمة، غير أن عبد المولى اكتشف الأمر فقرر اختيار البحث عن مساعدة الدولة، غير أن العملية لم تتم بعد قرار الحكومة المغربية التعاقد مع شركات أجنبية لتأمين عملية عبور المهاجرين، مما نتج عنه إفلاس الشركة وتصفيتها نهائيا.
محاولات إنقاذ فاشلة
بعد محاولات فاشلة للإنقاذ وسلسلة من الجلسات التي امتدت زهاء ثلاث سنوات، اتضح خلالها أن الفشل نابع من ضعف واختلالات التسيير من طرف مالكي الشركة، قررت محكمة الاستئناف التجارية بفاس سنة 2015 الحكم بتصفية الشركة نهائيا، ليكون ذلك آخر مسمار يدق في نعش السيادة المغربية على قطاع النقل البحري.
وبالرغم من مجموعة من المحاولات الحكومية والمفاوضات لعودة رجال الأعمال المغاربة إلى القطاع، إلا أنها بقيت بعيدة عن تحقيق غاية إعادة السيطرة المغربية على هذا القطاع، فبعدتوصل وزارة التجهيز إلى اتفاق مع الملياردير عثمان بنجلون، الذي دخل في شراكة مع مجموعة أتيكا اليونانية، للاستثمار في المجال، عبر حلق شركة “أفريكا موروكولينك”، لم تحقق هذه المحاولة النجاح المرغوب، نظرا للصعوبات المتعددة التي واجهتها.
وأمام غياب سيادة حقيقية على المجال، وتملص الحكومة من القيام بواجبها في حماية المهاجرين المغاربة من جشع الشركات الأجنبية، وغياب رؤية مستقبلية واضحة لإنقاذ هذا القطاع، يرجح أن تستمر الجالية المغربية في المعاناة من هذا الجانب، مع يحتمله ذلك من إمكانيات التأثير على الاقتصاد المغربي.