الحسين المانوزي.. يساري غيّبه الاختفاء القسري ومصيره مجهول إلى اليوم
ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الثامنة والعشرون: الحسين المانوزي.. يساري غيّبه الاختفاء القسري ومصيره مجهول إلى اليوم
في سنوات الجمر والرصاص، كانت مسألة اختفاء أحد المناضلين عن الأنظار شائعة جدا، إذ كانت عمليات الاختطاف تتم في السر تحت جنح الظلام أو في ضوء النهار، لا مانع ولا فرق. من بين المختطفين من خرج بعد سنين طويلة يجر وراءه سنوات طويلة من الاعتقال والتعذيب، ومنهم أيضا هؤلاء الذين لم يعرف مصيرهم إلى اليوم، ومنهم الحسين..
الحسين المانوزي هو أحد المختطفين إبان سنوات الجمر والرصاص، والذي يجهل مصيره إلى حدود اليوم. لم تنجح تجربة الإنصاف والمصالحة، في تعرية الجزء الخفي من قصته، ومازالت عائلته في كل مرة تجدد مطلب الحقيقة في وفاته ومُستقر جثمانه إن كان توفي.
مطالب الإفراج عن الحقيقة في ملف الحسين المانوزي كلها ترتطم بالباب المغلق، فلا أحد يعلم مصيرها، ومن يعلمون لا يريدون الإفصاح عنه، فمنذ اختطافه مطلع السبعينات من تونس وترحيله إلى المغرب، لم تكن هناك رغبة للاعتراف بوجود الحسين عند مصالح الأمن، إلى حين فراره رفقة آخرين منتصف السبعينات، لتكتشف العائلة أن الابن مازال حيا.
بعدها اختفى مصير الحسين المانوزي نهائيا، وطال انتظار الأم أن يعود ابنها، أما الأب والإخوة، فقد كان أغلبهم فاقدا الأمل في تلك العودة المرجوة، ذلك أنهم كانوا قد عاشوا محنة الاعتقال وعادوا من جحيمها بأعجوبة، وهم أعلم من الأم بالكيفية التي كان نظام الجمر والرصاص يتعامل بها مع المعتقلين المعارضين، اليساريين على الخصوص.
عائلة المانوزي، تعتبر استثنائية، ومن العائلات القليلة بالمغرب التي أنجبت الكثير من المغضوب عليهم من طرف نظام الحسن الثاني. ويحكي أحد أبناء المانوزي في أحد البرامج، كيف أن سبعينات القرن الماضي كانت شاهدة على احتضان السجون أزيد من 18 معتقلا من بين العائلة، بما فيهم الأب علي المانوزي والعم الذي أٌعدم في المحاولة الانقلابية الأولى، بعدما لفقت له تهمة المشاركة فيها، والأبناء وأبناء العم.
هكذا، لم يكن مصير الحسين المانوزي ليختلف كثيرا عن مصير باقي أعضاء العائلة، وهو الشاب الاتحادي الذي كان معروفا منذ بدايات مسيرته بالنشاط النضالي الدائم في وجه بقايا الاستعمار، ومن أجل الدفاع عن مشروع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي أسس له المهدي بنبركة والآخرين.
وتتشابه إلى حد كبير معطيات اختفاء الحسين المانوزي باختفاء المهدي بنبركة مع فارق بسيط في التفاصيل، فكلاهما اختطفا خارج المغرب، الأول بتونس والثاني بفرنسا، وكلاهما اختطفا يوم 29 أكتوبر، بنبركة سنة 1965 والحسين سنة 1972، وهما الاثنين انتميا إلى البيت الاتحادي، وكلاهما بقي قبراهما مجهولين إلى اليوم، ولم تكشف الحقيقة كاملة في قصتهما رغم مطالب العائلات.
الحسين كان شابا نشيطا، وهو من مؤسسي شبيبة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والشبيبة الاتحادية، وكان من الأوائل الذين ناضلوا من أجل إجلاء القواعد العسكرية الأجنبية واستكمال الوحدة الترابية المغربية وفرض السيادة الشعبية والتضامن مع الشعب الجزائري، كما عرف بنشاطه في الكشفية والمخيمات، وكان بارعا في إيصال الرسائل التي كان يكلفه أبوه بإيصاله.
الولادة في أسرة مناضلة..
ولد الحسين المانوزي سنة 1943، في كنف عائلة مقاومة للاستعمار، كانت تنشط في خلايا حزب الاستقلال وجيش التحرير والمقاومة المسلحة، ولد الأب المسمى علي المانوزي سنة 1913، بأيت لحسن أوعلي قبيلة إيعشان بإقليم تافراوت، قبل أن يهاجر ليستقر بالبيضاء، وكان هناك مسقط رأس أبنائه.
منذ حداثة سنه كان مشاركا في النضال ضد المستعمر، وكان يقوم بتوزيع المنشورات وإيصال الرسائل. تابع الحسين تعليمه بالدار البيضاء، وفي مرحلة الثانوية تخصص في شعبة تقنية، وكان معروفا بتحركه في صفوف الشبيبة الاتحادية والكشفية المغربية ومناضلا من أجل مغرب الاستقلال.
تخرج فيما بعد، والتحق للعمل بشركة الخطوط الملكية المغربية، وفي سنة 1964، سيطرد منها بسبب نشاطه النقابي. هاجر بعدها إلى أوروبا حيث استمر في العمل النقابي داخل إطار مركزية العمال ببلجيكا، وكان ينتقل من بلد إلى آخر لتوعية الجالية المغربية، والمساهمة في حملة محاربة الأمية بين العمال.
في سنة 1968، عاد إلى المغرب حيث قضى عامين لم ينقطع فيها عن النضال في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم رجع بعدها إلى فرنسا سنة 1970. وفي السنة نفسها، اعتقلت السلطات عددا كبير من المناضلين الاتحاديين وعددا من أفراد عائلة المانوزي بمن فيهم الأب.
سينطق الحكم بالإعدام في محاكمة مراكش الكبرى سنة 1971 في حق كل من الحسين المانوزي وسعيد بونعيلات أجار والفقيه محمد البصري والفقيه الفكيكي وعبد الفتاح سباطة، بتهمة النشاط في المنظمة السرية الموازية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
استمر الحسين المانوزي في مزاولة نشاطه السياسي في إطار حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان أحد منشطي البرنامج الإذاعي “صوت التحرير” الذي كان يبث على أمواج الإذاعة الليبية، والذي كان يحرض على الثورة في المغرب بتنسيق مع المنظمة المذكورة.
الاختطاف من تونس..
جرى اختطاف الحسين المانوزي من تونس حينما كان يقضي عطلته، بعدما تم استدراجه من طرف شخص اسمه إدريس عضمون، والذي كان يشتغل لفائدة المخابرات المغربية «الكاب1» وتم اعتقاله في النقطة الثابتة الثالثة بمحيط العاصمة الرباط، بعدما تم تنقيله إلى المغرب في ظروف طبعتها السرية، ليعتقل مع بعض ممن شاركوا في المحاولة الانقلابية الفاشلة الأولى، وهم محمد عبابو وأحمد مريزك وامحمد الشلاط وعقا حروش، بالإضافة إلى الإخوة بوريكات علي ومدحت وبايزيد.
انقطعت أخبار الحسين مدة ثلاث سنوات. وفي 12 يوليوز 1975 فرّ المعتقلون من نفس المعتقل السري، لتعلم العائلة بأن الابن مازال حيا، بعدما جاءت الشرطة للسؤال عن مكان اختبائه، قبل أن يتم اعتقال الفارين ومن بينهم المانوزي سبعة أيام بعد فراره.
وتفيد المعطيات، أن الحسين المانوزي قضى أياما عند مقدم قرية عين العودة، الحسين حامة، وبحسب ما جاء في مذكرات امبارك بودرقة وشوقي بنيوب، تقول المذكرات بعنوان «كذلك كان»، أن مقدم القرية، وعلى الرغم من أنه كان يساهم في الحملة الجماعية للبحث عن الفارين، فإنه كان يأوي في بيته كل من الحسين وعقا، وعندما استشعر الخطر طلب منهما مغادرة المخبأ، قبل أن يتم اكتشاف أمرهما.
وهكذا غادر عقا البيت، بحثا عن مكان آخر آمن، ولكن السلطات حاصرته في المنطقة نفسها، ومات خلال المطاردة، لكن الحسين المانوزي أقنع المقدم حامة في أن يساعده على تجاوز نقطة مراقبة الدرك الملكي لمغادرة قرية عين العودة. وصباح يوم 19 يوليوز 1975، توجه المقدم رفقة المانوزي إلى مقهى إبراهيم الرفاعي لتناول وجبة العشاء، وقدم المقدم المانوزي للرفاعي على أنه من بين معارفه، وبعدها امتطى المقدم والمانوزي دراجة نارية، وانطلقا معا مغادرين عين العودة في اتجاه الرباط، وعند وصولهما إلى نقطة المراقبة، تعرفوا على المقدم وسمحوا له بالمرور بدون أدنى مراقبة.
وبعد قطع مسافة قصيرة، غير المقدم الاتجاه وعاد أدراجه صوب نقطة المرور، ليسلم الحسين لرجال الدرك باعتباره الشخص المبحوث عنه، وفي البداية لم يأخذ المسؤول عن المراقبة تصريحات المقدم بالجدية، لأن البنية الجسدية والهزيلة والضعيفة للمانوزي لا توحي أنه قد يكون من ذوي السوابق أو أحد أبطال الهروب من المحتجز السري.
وفي اليوم الموالي حلت فرقة أمنية إضافية بعين العودة، كما حطت طائرة مروحية كان عل متنها وزير الداخلية حدو الشيكر وعامل مدينة الرباط عمر بن شمسي، تقول المذكرات. وكان ضمن المهام التي قاما بها تهنئة المقدم حامة على عمله البطولي حين قام بتسليم الحسين للسلطات، لكن في المساء نفس داهمت قوات الأمن منزل المقدم وقامت بتفتيشه واعتقلته رفقة ابنيه إبراهيم وحسين، واعتقلت بعدها صاحب المقهى الرفاعي.
التحقيق في لغز الاختفاء..
تؤكد المذكرات أن إدريس بنزكري، قام بزيارة مقر النقطة الثابثة الثالثة القريبة من الرباط، الذي فر منه الحسين المانوزي هو ورفاقه، واستمع إلى شهادة أحد الحراس السابقين للمركز، السيد بوتولوت، والذي أكد أنه تمت إعادة كل الفارين إلى المركز، بعد إلقاء القبض عليهم، بمن فيهم المانوزي. وأن فرقة من الدرك هي التي أخذت معها الإخوة بوريكات الثلاثة، بمعية فرقة أخرى تابعة لأحمد الديلمي، وقامت بخطف المانوزي واقتياده إلى جهة يجهلها بوتولوت.
وأكدت المذكرات أن الهيأة تلقت جوابا من مصالح الدرك الملكي، يؤكد اعتقال الحسين المانوزي ليلة 12 إلى 13 يوليوز 1975، من قبل حاجز المراقبة للدرك الملكي بعين العودة غالبا يوم 16 يوليوز من السنة نفسها، عندما كان يمتطي دراجة نارية يقودها المقدم حامة، وبعدها تم تسليم المعني للجهة التي كانت تبحث عنه وهي المخابرات المدنية «الديستي» و«لادجيد»، ثم نفت أن يكون المانوزي قد استنطق بمقر الدرك الملكي.
في سنة 1991، وبعد إخلاء المعتقلات السرية بتازمامارت وقلعة مكونة وأكدز، نشرت الصحافة بناء على مصادر شبه رسمية أخبارا عن تدهور صحة الحسين ووجوده بإحدى المستشفيات قصد العلاج. وبعد شهر من ذلك، أعلن المجلس الاستشاري لحقوق الانسان بشكل مفاجئ وفاة الحسين المانوزي، دون الإدلاء بأي تفاصيل عن التحريات التي قام بها أو مصادر معلوماته.
وأمام رفض العائلة قبول ادعاءات المجلس الاستشاري، وتأكيد علي المانوزي بأن ابنه الحسين حي يرزق، تمّ إدماج اسم الحسين من جديد في لائحة مجهولي المصير خلال الدورة 13 للمجلس الاستشاري.
إلى اليوم لا وجود لأجوبة محددة في قضية اختفاء الحسين المانوزي، والحقيقة الواحدة القائمة هي أن الحسين اختطف من تونس في عملية جد محكمة، ونقل بسيارة دبلوماسية، وتم إيداعه بالمعتقل السري ليقضي ثلاث سنوات من التعذيب، وأخر من رأى المانوزي الحسين هم المعتقلون الذين فروا معه، لتنقطع كل الأخبار عنه فيما بعد ويصبح مصير منذ وقتها في حكم الغيب.