أحمد بنجلون.. الثوري الذي لم يستقل أبدا
ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأحمر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الثالثة: أحمد بنجلون.. الثوري الذي لم يستقل أبدا
تعود عبارة “الثوري لا يستقيل أبدا” في الأصل إلى الثائر الأرجنتيني أرنيستو شي غيفارا، وكان الراحل أحمد بن جلون قد توصل بها من شاب متعاطف ذات يوم عبر بطاقة بريدية، ذلك أنه كان بحق، وفقا لما قيل في شهادات الكثيرين ممن عايشوه، ثوريا لم يؤمن قط بالاستقالة من عمله السياسي ولا من حلمه في التغيير ولا من أفكاره وقناعاته، رغم ما كابده طيلة مسيرته.
أحمد بن جلون الذي كان الدخول إلى السجن والخروج منه سلوكا روتينيا واعتياديا في حياته، كما هو حال من انخرطوا في تجربة اليسار إبان “سنوات الجمر والرصاص”، بصم بذلك على تجربة فريدة قّلما تكررت، من طالب ثائر إلى حامل للسلاح مؤمن بحرب التحرير، ثم إلى العمل السياسي المعارض، وصولا إلى الإيمان بضرورة المشاركة الانتخابية كسبيل للإصلاح
قادته أحلامه الثورية، التي كان يرى من خلالها العالم بدون طبقات ولا ظلم أو اضطهاد، والتي تشارك فيها مع أبناء جيله، إلى التعرض لأشد أصناف التعذيب الجسدي والنفسي، حتى استمرت آثار التعذيب وشوما على جسده، وقد بلغت فترات التعذيب إلى درجة أن الدود خرج من رجليه، ليخاطبه المحقق إمعانا في تعذيبه، حسب ما روى أحمد، “لن نتركك حتى يخرج الجراد من رجليك”، وظل بنجلون كلما استحضر ذلك يضحك لأنه لم يعرف كيف ستتم عملية إخراج الجراد..
أحمد بن جلون أو “عبد المومن” اسمه الحركي الذي ظل ينكره في جلسات التعذيب أمام المحققين الذين لم يفلحوا في انتزاع ذلك الاعتراف منه، لم يكن إلا الابن الأصغر في عائلة بن جلون المناضلة، وهو الأخ الأصغر للقيادي البارز في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عمر بن جلون الذي “اغتيل” على يد جماعة إسلامية سنة 1975.
وأثّر موت عمر في نفسية أخيه أحمد كثيرا، وكلما كان يستحضره كان يردد، حسب رفيقه بوطوالة في إحدى الحوارات، مقولته الشهيرة عن مفكر ألماني “الشهداء لهم اختياران، إما أن يتم نسيانهم أو أم يتم توظيفهم”، لكنه كان يختار طريقا ثالثا، وكان يرفض أن يتم توظيف الشهداء خصوصا في المسارات التي تعاكس ما كانوا يدعون إليه.
وقف “سي احمد” كما كان يحلو لرفاقه أن ينادوه، وجها لوجه أمام الموت، وعندما كان متيقنا من أن حكم الإعدام أقرب إليه من حبل الوريد، جاءت المحاولة الانقلابية لسنة 1971 على بعد شهر واحد من محاكمة “مراكش الكبرى” في شهر يونيو، لتخفف من الحكم في حقه الذي أصبح عشر سنوات سجنا عوض الإعدام.. وبمخفر “دار المقري” بعد الاعتقال استطاع أحمد التعرف على من كان يستنطقه، بعد صفعة قوية أزاحت العصابة عن عينه، والذي لم يكن سوى الجنرال أوفقير.
كانت زوجته فريدة تحتل مكانة هامة في حياته، وهي التي كان حضورها جانبه يعادل “جيشا” بأكمله، إذ بقيت صامدة من أجل مساندته في اختياراته، وهي التي لم تختر حياة كباقي النساء، بل اختارت أن تعيش مع أحمد وترافقه وهو يمضي بين المحاكم والزنازين والمستشفيات. فقد قال عنها «ما أظهرته هذه السيدة الرائعة من تفان ونكران الذات، وما قدمته من تضحيات يشهد بها كل المناضلين الذين تعرّفوا عليها، يؤكد فعلا أن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة».
بوجدة كانت الولادة “الثورية”
في جنوب مدينة وجدة، وبقرية اسمها “عين بني مطهر”، وخلال صيف 1942 سيرزق الزوجان محمد بن جلون وللا أمينة، بمولود سيكون آخر العنقود، اختارا له اسم أحمد، وهو يصغر كلا من الزبير وعمر وزبيدة والعباس على التوالي.. وعلى مدى 73 سنة، سيشغل أحمد بنجلون حيّزه من المشهد السياسي، إذ إنه استمر في المعارضة طيلة حياته، ولم تشهد حياته فترات راحة، إلى أن فارق الحياة يوم 2 فبراير سنة 2015، بعد مرض عضال أصابه في الرئة لم ينفع معه علاج.
تدرج أحمد في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا عام 1964، ولأن أخاه عمر بنجلون كان يريده أن يبتعد عن السياسة، إذ كان ينصحه بدراسة الطب، هاجر إلى الجزائر، إلا أنه لم يكن من هواة المختبرات، فغيّر الشعبة بعد شهر واحد ليلتحق بشعبة الحقوق، وليتفرغ أكثر للعمل السياسي والنضالي، ثم من الجزائر إلى فرنسا ليستكمل دراسة الحقوق، التي لم تشأ لها الظروف أن تنتهي إلا بعد سنوات من ذلك في الرباط.
من معسكرات “الزبداني” إلى دار المقري
سيقود الطموح الثوري والاندفاع الشبابي، أحمد بنجلون، الذي كان معروفا بطول قده وبصلابة جسده، إلى خوض غمار تجربة لم تكن تعكسها ملامحه الهادئة، إذ سيلتحق من فرنسا بمعسكرات “الزبداني” ضواحي دمشق بسوريا، للتدرب على حمل السلاح، في إطار ما عرف بحركة 3 مارس المسلحة، ثم إلى مدريد باسبانيا تمهيدا للدخول إلى المغرب من أجل حسم المعركة وفق ما كان مخططا له.
في يناير 1970، وبينما هو في اسبانيا حيث كان يقطن مع “سعيد بونعيلات”، تفاجأ أحمد بالشرطة الاسبانية وهي تحاصر المنزل، وكانت قد اعتقلت سعيد زهاء ساعتين من قبل، وستأخذهم بعد ذلك ليتم تسليمهم إلى طائرة عسكرية مغربية، آنذاك تهامس مع سعيد “إن النهاية قد حلت”، كما حكى أحمد تلك اللحظة.
تم وضع أكياس على رؤسهما وبمجرد صعود الطائرة تم استبدالها بعصابات، وتم تقييد رجليه بسلسلة سترافقه مدة طويلة إلى درجة أنه قام بعد حلقاتها البالغة 73 حلقة، ليتم اقتياده إلى المخفر السري “دار المقري” ضواحي الرباط، لتطلق فصول تعذيب لا يمكن للكلمات أو السطور أن تختزلها أو تصفها، وتكفي الإشارة إلى أن بنجلون سيضطر سنوات بعد ذلك إلى الجلوس على الكرسي المتحرك لبقية عمره..
يقول “سي أحمد” في تجربته مع الاعتقال ”تعرضت في حياتي لعدة اعتقالات، ولكن الاعتقال الذي أعتبره أكبرهم جرى يوم 29 يناير سنة 1970، بالعاصمة الاسبانية مدريد، حيث اعتقلتني الشرطة الاسبانية من إحدى الشقق التي كنت نزيلا فيها وكان رقمها 14،… وتم اعتقالي حوالي الساعة الثامنة مساء، حيث جئت إلى الشقة بالعمارة التي كنت أقطن فيها، فوجدت الشرطة في انتظاري مدججة بالسلاح، وكانت قد طوقت العمارة، فتم اعتقالي، وكان رفيقي سعيد بونعيلات قد تم اعتقاله قبلي بحوالي ساعتين، ولم أكن على علم بذلك”.
عندما انتهى الخلاف الحزبي في المخافر
على خلفية خلاف حزبي في بيت الاتحاد، الذي كان قد تحول اسمه من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي، تطور إلى صراع حول المقرات وغيرها فيما عرف بانشقاق 8 ماي 1983، سيتم اعتقال أحمد مرة أخرى بناء على شكاية من قيادات الاتحاد التي أدخلت الشرطة في تفاصيل الخلاف التنظيمي..
بعدها سيقطع بنجلون مع تجربة الاتحاد الاشتراكي واختياراته، لينخرط في تجربة جديدة سيؤسسها مع رفاقه وهي تجربة حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، الذي تبنى الاشتراكية العالمية، وخاض معارك مقاطعة الانتخابات لسنين طويلة، وأصبح أحمد أمينا عاما للحزب سنة 2001، ودافع عن اختيار الحزب المشاركة في الانتخابات سنة 2007.
ويروي علي بوطوالة رفيق أحمد، أنه كان مدافعا شرسا عن وحدة اليسار التي بدل في سبيل بنائها إلى جانب من آمنوا بها تضحيات كبيرة من وقته وجهده، حتى أنه كان هو الذي اختار رمز “الرسالة” لتحالف اليسار سنة 2007، كما أنه حضر مهرجان تأسيس اليسار الديمقراطي في 23 مارس 2014.