المغاربة والعرب في مواجهة أزمات وأوبئة حصدت الآلاف
اجتاحت أوبئة وأمراض فتاكة بلدانا كثيرة أدخلتها في أزمات حقيقية. وكغيرهم عاش المغاربة العرب، فترات حالكة على مدى حقب تاريخية مختلفة. وفي تعاملهم معها لعبوا كل أوراقهم؛ بحثوا في الطب، وطبّقوا الحجر الصحي لحماية أنفسهم، وتمسكوا بالمعتقدات الدينية وتقاليدهم الشعبية في مواجهتهم الأوبئة والأزمات، إلا أنها أسقطت منهم المئات يوميا وأذاقتهم العذاب؛ وقلبت موازين حياتهم، وفتحت الطريق أمامهم على مصراعيه لانتشار الفوضى والسيبة والجوع والسرقة…
صفحات من ماضي الأجداد دوّنها كُتاب التاريخ لرسم صورة بأبعاد واضحة عن صراعنا مع الأزمات والأوبئة. وباختلاف العصور والأمكنة، تكالبت في أحيان كثيرة الظروف الطبيعية والسياسية لتعمق جراح جسد المغاربة والعرب الذي ظل ينخره الوباء بلا رحمة، وصاحب ذلك الجفاف فنام الناس جياعا، وأكل القوي منهم الضعيف، وانتشرت اللصوصية، وارتفعت الأسعار وقلّت التغذية، إلا أنهم واجهوا واقعهم وآمنوا بوجود ضوء في آخر النفق.
في هذه الحلقات، وخلال الشهر الفضيل، تسافر بكم جريدة “أمَزان24” عبر التاريخ، لتعيد رسم معالم أزمات عايشها المغاربة والعرب، بعضها غيّر مجرى التاريخ بأكمله.
الحلقة الثانية: هكذا قتل الطاعون ثلثي سكان فاس ولم يبق بالملاح سوى 7 أسر
بعد هدنة دامت ثلاث سنوات، عاد الطاعون من جديد في منتصف سنة 1747 إلى جنوب المملكة، وتوفي بسببه أول شخص في سوس، واستوطن أكادير وآسفي، ثم انتظر سنة كاملة ليصل إلى مراكش وتافيلالت. وطيلة تلك الفترات ظهر أنه تميز بخفته، نظرا لشح المعلومات عنه، إلا أنه بلغ ذروته في السنوات القليلة اللاحقة.
وفي سنة 1750، أبت السماء أن تفيض بالغيث، رغم أنه في فاس وحدها أقيمت صلوات الاستسقاء 16 مرة بين يناير ومارس، ثم أمطرت السماء بغزارة وأضاعت الحرث وأهلكت الضرع، ليجد الطاعون نفسه أمام أناس جياع سهل عليه القضاء عليهم. وفي السنة نفسها، خرج الأمير سيدي محمد من الرباط، في جيش قوامه 4 آلاف جندي قاصدا والده السلطان مولاي عبد الله بفاس، ومرّ في طريقه بالشاوية والرباط ثم وصل مكناس في ماي 1750، وهي كلها جهات موبوءة.
وفي أواخر سنة 1749 استقر الطاعون بسلا والرباط، وطاب له المقام بهما، وشرع في ممارسة هوايته في الفتك؛ فقد سلب حياة 60 ضحية يوميا طيلة أشهر، ثم ارتفع عدد ضحاياه في فاس مابين 160 و170 ضحية في اليوم، وبتاريخ 9 يوليوز زاد العدد بالمدينتين إلى مابين 300 و400 ضحية في اليوم، فيما وثيقة أخرى بتاريخ 14 غشت تؤكد أن الوباء أحدث خسائر رهيبة بكل منهما؛ بتسجيل 1500 وفاة في يوم واحد بالمدينتين، واستمرت الجائحة، ولم يبق في قصر بولعوان سوى ثلاثة أشخاص.
وفي السياق نفسه، نفت مراجع أخرى أرقام الوفيات بسبب الطاعون، مؤكدة أنها لم تبلغ تلك الحدة وأن عدد ضحايا الطاعون بفاس لم يتجاوز 300 ضحية في اليوم؛ في ذروة الوباء بالمدينة، ما بين 6 يونيو و5 يوليوز سنة 1750.
وبعدها بزمن يسير، استمر عداد الموتى في التزايد في آسفي وعبدة وأزمور ومراكش وبلغ 300 و400 ضحية في اليوم، ثم ارتفع الرقم في الشهر الموالي إلى 500 ضحية، ما دفع الأمير سيدي محمد إلى الخروج مع حاشيته بحثا عن ملاذ آمن.
المجاعة تقتل 1400 أسرة بمكناس وتنهي ثلثي ساكنة فاس
بحسب المؤرخين فإن المجاعة ضربت أكثر فاس ومكناس مقارنة بمدن الشمال، كما أن التاريخ يروي تدفق سيول الجائعين من فاس ومكناس إلى مدن الشمال التي اتخذها مولاي عبد الله قاعدة الانطلاق لاسترجاع عرشه.
ووصف المؤرخون المجاعة بأنها أكثر تدميرا من مجاعة 1721 و1724، ورغم أنها كانت محدودة في الزمان والمكان، إلا أنها خلفت الكثير من الضحايا، وبحسب “طير متلن Ter Meetelen”، شاهد عيان المجاعة بمكناس، فإنه لم يبق من 1400 أسرة بالملاح سوى 7 أسر، وقدر ضحايا المسلمين بما مجموعه 48.000 ضحية، إلا أن روايات أخرى تشير إلى أرقام أقل، خصوصا أن عددا كبيرا من يهود المدينة هربوا من المجاعة.
فاس خاوية على عروشها بهلاك سكانها أو هجرتهم
وبحسب بعض الروايات؛ فإن الناس لم يتمكنوا من دفن موتاهم، وهناك وثائق بتاريخ أكتوبر 1738، تؤكد أن المجاعة قضت على ثلثي ساكنة مدينة فاس، “فقد هد الجوع أركانها وفرّق أوطانها وأخل رسمها ولم يبق في الحقيقة إلا اسمها، وخرب عنها الدور والحومات ومات من أهلها الثلثان والثلث الباقي أشرف على الوفيات، مع كل ما انضاف إليهما من الفتن والفوضى والسير في الأمر المريع الذي لا يرضى، وتراكم أهوال الوقت التي تجل عن الوصف والنعت”.
وفي رواية أخرى وصفت بالمبالغ فيها، يقول المؤرخ الزياني، إن صاحب المرستان أخبره بأنه كفن في ظرف ثلاثة أشهر سنة 1738 أكثر من 80 ألف ميت، إضافة إلى العدد الذي تكفل ذووه بتجهيزه.
وتشير رواية أخرى للقادري، إلى أن ثلثي فاس خلت إما لهلاك أصحابها أو لفرارهم، وتؤكد مصادر متنوعة أن أحياء خلت تماما من سكانها: “حومة الكدان، ودرب اللمطي، وحومة الأقواس، والبليدة، والمطالعة…” ومهما تكن الأرقام، فإن المجاعة قلصت كثيرا من عدد السكان، لتفتح الطريق للطاعون 1747، ولم يحدد المؤرخون العدد الإجمالي للوفيات بعد الطاعون الأول؛ بين 1742 و1744، والطاعون الثاني؛ بين 1747 و1751، إلا أنها قدرت بأنها أهلكت بين 10 و27 بالمائة من ساكنة المدن الرئيسة، مقارنة بإحصائيات الوفيات بالطاعون في دول أوروبية مجاورة.
الكساد العظيم ومعجزة السلطان مولاي عبد الله
تسبب كل من الطاعون والمجاعة في الانهيار الديموغرافي والانحطاط الاقتصادي، بتراجع الفئة النشيطة وعدد الناس، ما أثر في العمل في كل الميادين الاقتصادية، وتسببت المجاعة في هلاك الدواب واختفاء البذور، يقول القادري، “أرسل الله المطر الغزير وتدرج الناس الحرث على ضعفهم، ولعجزهم عنها بالدواب حرثوا بالفؤوس، وغاية من بلغ من له القدرة أن حرث بالحمير، وقليل منهم حرثوا بالدواب الكبار، ونتيجة لذلك انكمشت الأرض المنزرعة، ورخصت ثمار الصيفية مع قلتها لقلة آكلها لأنها تزيد في الجوع”. وضعفت المبادلات التجارية الخارجية؛ وقطعت اسبانيا جميع مواصلاتها مع المغرب، تقول وثيقة من الرباط بتاريخ 11 يوليوز 1749، “إن الأمور التجارية في حالة يرثى لها بحيث لم نبع شيئا من السلع التي لدينا… وسبب ذلك راجع إلى الطاعون الذي تفشى هنا منذ شهر مارس الماضي وأضر بالتجارة”.
وعلى المستوى السياسي، أضعفت الكوارث الطبيعية جهاز الدولة، وكان رجوع الأمور إلى سابق عهدها يحتاج لسنوات سمان من الاستقرار، إلا أن استمرار الأوبئة حال دون ذلك، ولعلّ محمد الضعيف عبّر عن ذلك قائلا، “ولولا أن الحالة في دولته تغيرت والفتن في نواحي الغرب قد اشتعلت، لكان مولانا المستضيء بنور الله موافقا لوالده في بعض الخصال مشابها له في بعض الأحوال”.
ومثل ما ذكرنا في الحلقة الماضية، فإن هلاك العبيد الموالين للمستضيىء؛ بسبب الوباء والمجاعة قلب موازين الحكم للسلطان مولاي عبد الله، وبهذا الصدد يقول محمد الضعيف، “وأهلك الله كل من خرج على السلطان مولاي عبد الله”، مضيفا أن السلطان استغل الطاعون للدعاية السياسية لصالحه لأن مدن فاس وآسفي وأكادير التي مازالت تحت حكمه أو حكم أتباعه سلمت من الوباء، ما جعله يزعم أن هذه معجزة تظهر أحقيته في الحكم.