المغاربة والعرب في مواجهة أزمات وأوبئة حصدت الآلاف
اجتاحت أوبئة وأمراض فتاكة بلدانا كثيرة أدخلتها في أزمات حقيقية. وكغيرهم عاش المغاربة العرب، فترات حالكة على مدى حقب تاريخية مختلفة. وفي تعاملهم معها لعبوا كل أوراقهم؛ بحثوا في الطب، وطبّقوا الحجر الصحي لحماية أنفسهم، وتمسكوا بالمعتقدات الدينية وتقاليدهم الشعبية في مواجهتهم الأوبئة والأزمات، إلا أنها أسقطت منهم المئات يوميا وأذاقتهم العذاب؛ وقلبت موازين حياتهم، وفتحت الطريق أمامهم على مصراعيه لانتشار الفوضى والسيبة والجوع والسرقة…
صفحات من ماضي الأجداد دوّنها كُتاب التاريخ لرسم صورة بأبعاد واضحة عن صراعنا مع الأزمات والأوبئة. وباختلاف العصور والأمكنة، تكالبت في أحيان كثيرة الظروف الطبيعية والسياسية لتعمق جراح جسد المغاربة والعرب الذي ظل ينخره الوباء بلا رحمة، وصاحب ذلك الجفاف فنام الناس جياعا، وأكل القوي منهم الضعيف، وانتشرت اللصوصية، وارتفعت الأسعار وقلّت التغذية، إلا أنهم واجهوا واقعهم وآمنوا بوجود ضوء في آخر النفق.
في هذه الحلقات، وخلال الشهر الفضيل، تسافر بكم جريدة “أمَزان24” عبر التاريخ، لتعيد رسم معالم أزمات عايشها المغاربة والعرب، بعضها غيّر مجرى التاريخ بأكمله.
الحلقة الأولى: حينما هزم الطاعون جيشين وقتل جنود قبائل مغربية وذويهم
حينما نتصفح تاريخ الأوبئة بالمغرب، لابد من التوقف لبرهة من الزمن عند شهر مارس من سنة 1742، عندما سلك الطاعون طريقه إلى المغرب عبر وجدة؛ المدينة التي فتحت أبوابها للهاربين من ويلات الوباء في الجزائر، الجارة التي نزل على سكانها الطاعون ضيفا ثقيلا رفض المغادرة طوعا، ومكث معهم ثلاث سنين؛ مابين 1740 إلى 1743.
واستمر الطاعون بالمغرب في مرحلته الأولى سنتين؛ بين 1742 و1744، وعانى المصابون به من الإجهاد الصحي الكبير، جعلهم يشعرون بالقشعريرة والدوران، كما أنهم يتقيؤون بكثرة إلى أن يموتوا، أما إذا تمكنوا من اجتياز المرحلة، فيصابون بحمى مرتفعة، وانهيار تام وبعطش لا يرويه ماء، وبتصلب في الساقين، وتبرز عندهم دماميل في الإبط وأحيانا في العنق والقفا، قبل أن يجهز عليهم ويذيقهم الموت. ولم يصفه المؤرخون بأكثر من “الطاعون الحقيقي” وبنوعيه؛ الدملي والرئوي.
تجيّشوا لقتال أعدائهم.. فأسقطهم الوباء
بحسب مؤرخين، فإن الوباء عرف ذروته في المدن الكبرى؛ تطوان وطنجة وفاس، نظرا للقوافل التجارية الكثيرة التي تقصدها من كل جانب، إضافة إلى أن هذه المدن هي الأماكن الرئيسة التي يمر منها الجنود والمحاربين بجموع غفيرة؛ من بينهم القبائل التي تشارك في حروب العرش بين المولى عبد الله والمولى المستضيىء، ويشير المؤرخ محمد الضعيف أن 65 ألف جندي بعضهم مصاب بالوباء، كانوا يتنقلون بين المدن الكبرى ويرجعون إلى القرى القاطنين بها وأصابوا أهلها بالوباء الفتاك.
ويقول المؤرخ الضعيف، “فابتدأهم الوباء في سنة 1742″، مشيرا إلى أن الخسائر كانت فادحة. وأكدت مراسلة بتاريخ 6 نونبر من السنة ذاتها، أن العبيد كانوا يموتون بالآلاف، والموت كشّر عن أنيابه حاصدا على الأقل مئات الضحايا يوميا، ولذلك قرر قائد الجيش الخروج من معركته ضد المولى عبد الله، فرارا من الوباء؛ ورغم ذلك كان يموت من جيشه؛ مابين 20 و30 جنديا في أقل من يوم بالوباء، وهلكت عن آخرها كل فرق العبيد المشايعة للمولى عبد الله.
التجارة… ناقلة العدوى الأولى
اتفق المؤرخون أن التجار لعبوا الدور الرئيس في نقل الوباء إلى المغرب، إلا أن سرعة وقوة الانتشار كانت بسبب المعارك والحروب التي تجمع العديد من الناس في ساحة واحدة، وكان بذلك للجنود المقاتلين دور محوري في انتشاره في كل المحاور التي تنقلوا بينها، وبرجوعهم إلى قبائلهم المختلفة زادت نسبة الهالكين.
وحدة عسكرية تتحول إلى بؤرة وباء
صحيح أن التاريخ يقول إن الوباء وصل المغرب عن طريق التجار، إلا أنه يؤكد أنه انتشر عن طريق الجنود، إذ شكل “مشرع الرملة”؛ أهم تجمع عسكري لجيش العبيد، البؤرة الأولى الحاسمة في انتشار الوباء، وهو ما نفهمه من القول السابق للمؤرخ محمد الضعيف “فابتدأهم الوباء في هذه السنة”.
ولنا أن نتخيل أن فرقة من مئات الجنود تندس مع الجند القادمين من مناطق مختلفة، ويمثلون قبائل الأودايا، وبربر زمور، وكروان، وآيت ادراسن، وآيت أو مالو، والحياينة، وأولاد جامع، إضافة إلى التجمع العسكري للعبيد المشايعين للأطراف المتحاربة، وهو ما جعل الطاعون ينتشر بشكل كبير، ويصل إلى جميع أهالي المناطق البعيدة عن القوافل التجارية.
بعد انحسار في الصيف.. عودة الطاعون بقوة
بعد حصده أرواح كثيرين في الصيف، عاد الوباء للظهور ثم الانتشار في أكتوبر من سنة 1742 في جميع أنحاء المغرب دون استثناء، وكان يحصد ضحايا كثر؛ في طنجة وحدها 40 شخصا في اليوم الواحد، ومعدل الوفيات في مكناس يقدر بين 50 و60 ضحية في اليوم، ووصل في ذروته إلى 150 هالك خلال 24 ساعة، وكان عدد الوفيات اليومية في مدن أخرى يتراوح بين 10 و40 وفاة في اليوم؛ أقل حصيلة طيلة فترة الطاعون، كما ضرب كل الجهات التي لم يصلها في الفترة الأولى؛ منها سبتة بين 10 و12 وفاة يوميا، وتطوان بين 70 و80 وفاة في اليوم.
نهاية الطاعون القاتل
بعد سنتين عجاف، ستبقى في تاريخ المغرب؛ 1742 إلى 1744، توقف الوباء لثلاث سنين، وتوقفت معه أقلام المؤرخين عن تدوين الحقائق، ولم تبح مصادرهم بأي معلومة إضافية إلى أن ظهر طاعون جديد يشكل امتدادا لسابقه في منتصف عام 1747.