*محمد لهبوب
بتتبع تفاعل المغاربة مع الحالة الوبائية، منذ تسجيل أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد بالدار البيضاء، إلى اليوم، بعدما بلغ عدد الحالات المصابة 2855، سيتضح أن هناك مستويات من التفاعل، تتغير بشكل تدريجي مع مرور الزمن. ويتبين ذلك بشكل واضح، بعد إقدام السلطات المغربية، على اتخاذ مجموعة من القرارات التي تهم المواطنين بشكل كبير، منها تطبيق حالة الطوارئ وفرض الحجر الصحي وارتداء الكمامات الواقية… وغيرها من القرارات التي تفاعل المغاربة بطرق مختلفة، بالمقارنة مع المواطنين في دول أخرى. في هذا الحوار سيقدم محمد لهبوب محمد وهو أستاذ باحث في علم النفس الاجتماعي تفسيرا لهذه التغيرات.
+كيف تأقلم المغاربة مع حالة الطوارئ الصحية، ولم يعد الخوف يسيطر عليهم كما كان الأمر في البداية؟
بشكل عام يمكن القول إن عملية التأقلم لدى الإنسان لا تتم دفعة واحدة، بل تتم بشكل متدرج، خاصة إذا تعلق الأمر بالانتقال الجذري من وضعية نفسية وسلوكية واجتماعية معينة إلى وضعية أخرى مختلفة عنها تماما، بحيث يتطلب الأمر مجهودا قصديا وإرادة واعية للانتقال من وضعية “قبلية” معتادة ومألوفة إلى وضعية “بعدية” غريبة وغير مألوفة، وما يستلزمه ذلك من قوة لتغيير العادات الراسخة والممارسات المتجذرة في مختلف البنيات الوجدانية والمعرفية والسلوكات للإنسان، على هذا الأساس فإن فعملية التأقلم ليست عملية بسيطة وتلقائية وآنية، إنها عملية نفسية وذهنية وسلوكية تتم عبر صيرورة زمنية تتحكم في إيقاعاتها مجموعة من المحددات الذاتية والشروط الموضوعية.
وبالعودة إلى كرونولوجيا الأحداث المتعلقة بفيروس كورونا، نجد أن ردود أفعال المغاربة في البداية تميزت بنوع من الاستخفاف واللامبالاة وبإظهار نوع من عدم الاكتراث واللاخوف، كردود أفعال ناتجة عن الجهل بالطبيعة الوبائية للفيروس وسوء تقدير لخطورته، لكن بمجرد إعلان وزارة الصحة عن أولى الحالات وبتزايد أعداد المصابين، وبإعلان تدابير حالة الطوارئ الصحية، بدأت ردود أفعال المغاربة تتخذ منحا آخرا، بحيث ارتفع منسوب الخوف والقلق ليصل أعلى درجاته خاصة مع توالي الإصابات وتزايد عدد الوافيات، ليتم الانتقال من سلوك الاستخفاف واللامبالاة والأنانية إلى سلوك الانخراط الجاد في تدابير الحجر الصحي والأخذ بالاحتياطات الوقائية، مع تنامي بعض مظاهر التعاون والتآزر والتعاضد الاجتماعي، وارتفاع نسبي في حس المسؤولية المجتمعية، دون أن نغفل هنا حالات من الانفلات والتمرد لدى بعض الفئات الاجتماعية أو استمرار بعض الحالات من اللامبالاة والاستخفاف، الناتجة في الغالب عن تدني في مستويات الوعي الثقافي والصحي، والتي غالبا ما تلقى استهجانا وانتقادا مجتمعيا، وصرامة في التعاطي معها من لدن السلطات العمومية.
+هل تغيرت طبيعة الخوف الذي شعر به المغاربة تجاه فيرس كورونا المستجد؟
بتطور تداعيات الوباء وبتوالي وتكثيف حملات التوعية والتحسيس، سيتم الانتقال سيكولوجيا ومجتمعيا وبشكل تدريجي؛ من حجر صحي قسري وإلزامي مفروض بقوة السلطة والقانون، إلى حجر صحي مسؤول يقوم على الالتزام الإرادي والواعي النابع من تقدير واقعي وموضوعي لخطورة الوضع، انتقال زكته وقوته بعض التدابير الإجرائية والتنظيمية للشؤون الاجتماعية والاقتصادية والعملية لمجموعة من الفئات الاجتماعية، وما رافقها من تسهيلات في الاستفادة من بعض الخدمات أو في أداء بعض الواجبات والمهام…
ولقد كان من الطبيعي في بدايات الحالة الوبائية للفيروس في المغرب أن يرتفع منسوب الخوف والقلق ليصل إلى حالات من الهلع والرهاب، لأن الأمر يتعلق بفيروس كان أغلب المغاربة يجهلون طبيعته وخطورته وطريقة عمله الفتاكة من جهة، ومن جهة أخرى كانوا يجهلون كيفية تدبير الجائحة ومواجهتها وكيفية تدبير نمط العيش المترتب عنها، لكن مع مرور الوقت وبتضافر الجهود التوعوية والتحسيسية والتنظيمية والتدبيرية، بدأ منسوب الخوف في الانخفاض والانتقال من خوف مرضي يطبعه الهلع والرهاب إلى خوف صحي وطبيعي وواقعي، وهو ما ترتب عنه ارتفاع نسبي في مستويات التأقلم النفسي والاجتماعي لدى فئات عريضة من المجتمع، وتقبل أغلبها لتداعيات الوضع رغم صعوبته.
+مازالت الأسواق في الأحياء الشعبية تعج بالمواطنين، بشكل يوحي كما لو أنهم غير خائفين، كيف يمكن تفسير ذلك؟
بالرغم من أن المغاربة قطعوا أشواطا جد متقدمة في مواجهة جائحة كورونا، إلا أننا مازلنا نسجل مجموعة من السلوكات والممارسات اللامسؤولة لدى مجموعة من الفئات وفي بعض الفضاءات، وتحديدا على مستوى الفئات الاجتماعية الشعبية وفي الفضاءات الخاصة بأنشطة التجارة والتسوق والتبضع، وهو ما يمكن تفسيره ببعض الخصائص النفسية والاجتماعية لهذه الفئة، وباستقراء الطبيعة التنظيمية والمورفولوجية للأسواق الشعبية:
– بالنسبة للفئات الاجتماعية الشعبية فهي تتميز في غالبيتها – بدون تعميم- بتدني مستويات الوعي وبانتشار الأمية والجهل، وبهيمنة الفهم السطحي والخرافي للظواهر الإنسانية والطبيعية، وتنتظم سيكولوجيا ومعرفيا ضمن بنيات تقليدية تهيمن عليها العادات والتقاليد الموروثة، والاعتقاد في قدرية وعناية إلهية خاصة، أو في التمتع بمقاومة جسدية تم تحصيلها من عادات خاصة في الأكل والشرب، مع ميل ونزوع نحو أساليب الوقاية والتداوي الشعبي، التي يروج لها بعض الدجالين من محترفي ما يسمى “بطب الأعشاب” والخلطات العجيبة والوصفات السحرية… كل هذه العناصر وما يدور في فلكها تنتعش وتروج داخل الأوساط الشعبية، وبشكل خاص لدى الفئات المهمشة والفقيرة والتي تعاني من هشاشة نفسية واجتماعية واقتصادية…
كما أن حاجة وعوز العديد من الأفراد يدفعهم للخروج والبحث من داخل الأسواق عن أنشطة وأعمال لكسب قوتهم اليومي، خاصة مع ارتفاع نسبة البطالة أو بسبب توقف العديد من الناس عن العمل، وبما أن الأسواق الشعبية هي الفضاءات التي تعرف في هذه الظرفية حركية ورواجا، فهي تبقى الملاذ الوحيد لهذه الفئة كمحاولة منها لتصريف الأزمة ولو بمهن وأنشطة مؤقتة.
– أما بالنسبة للطبيعة التنظيمية والمرفولوجية للأسواق الشعبية؛ يلاحظ أنها لا تخضع أساسا لمنطق تنظيمي معين بل يطبعها نوع من الفوضى، مما يجعلها فضاء للازدحام والتجمهر، خاصة وأنها تظل مكانا يحوي المواد الأساسية والحيوية، يقصدها الناس تلبية لحاجاتهم من المواد الغذائية، وظلت هذه الأسواق على نفس الشاكلة ولم تتغير لا من حيث توزيع مواقع البيع والشراء، ولا من حيث تنظيم العمليات والأنشطة التي تتم داخلها، وهو ما جعل منها فضاءات ممتلئة ومزدحمة، حيث يصعب فيها مثلا احترام مسافات الأمان أو تنظيم عملية البيع والشراء، لأن في الأصل مواقع ونقط هذه العملية غير منظمة، ولم تخضع لأي تدابير تنظيمية في ظل انتشار وباء كورونا. كان من الأجدر إعادة النظر في الأسواق الشعبية وتنظيمها بشكل يقلل من ازدحام مرتاديها، وإعادة هيكلة فضاءاتها ونقط البيع فيها وجعلها أكثر تباعدا، وتنظيم عملية الشراء فيها بحعلها مثلا عملية تتم وفقا لصيغة الشراء بالتناوب كما هو الأمر في الأسواق العصرية les supermarchés.
كل هذه العناصر الذاتية والموضوعية تفسر استمرار ظاهرة الاكتظاظ والازدحام داخل الأسواق الشعبية، وهي ظاهرة مستعصية من الصعب معالجتها بشكل آني، لأن ما أفسدته سياسات التجهيل والتفقير والتهميش، لا يمكن إصلاحه بين عشية وضحاها، ومن الصعب تداركه بتدابير مستعجلة وآنية.
* أستاذ باحث في علم النفس الاجتماعي