عبد النبي اشطبي
قد يسجل كل واحد منا وهو يشاهد شاشات التلفاز أو يتابع مواقع التواصل الإجتماعي، أن الوباء يخلف يوميا إصابات ووفيات جديدة، وبالتالي مآسي أخرى تنضاف إلى كاهل الشعوب. هنا ربما نفهم أن السمة البارزة للفيروس المستجد هي “العدالة”، فهو لا يصنف ولا يميز بين الناس ولا يراعي جنسياتهم أو سنهم أو انتماءاتهم الإجتماعية والسياسية، بل إنه قادر على اقتحام جسد أي إنسان كيفما كان موقعه أو جنسه أو عرقه، ليصير معيار القدرة على المقاومة والشفاء من هذا الضيف الثقيل جدا على البشرية، هو مدى قوة “المناعة البيولوجية” للفرد لا غير.
لكن بالمقابل، فإنه لا يخفى أن هذا “الوباء-الجائحة”، يمثل فرصة غير منتظرة لمراجعة العديد من المفاهيم والتصورات والسياسات، التي رسمتها مجتمعات الألفية الثالثة لماضيها ولحاضرها ولمستقبلها، وأيضا لمساءلة معاني وجودها ونوع المبادئ التي وضعتها لتدبير العلاقات فيما بينها.
ولعل أبرز القضايا التي يثيرها النقاش حول التغييرات الناجمة عن الوباء هي قضية “التربية”، التي ينبغي أن تعتمدها الشعوب لتأهيل أفرادها وتمكينهم من امتلاك الكفاءات المعرفية والسيكولوجية والأخلاقية المطلوبة لتحقيق الاندماج والتوازن المنشودين.
إن العديد من الملاحظات تفرض هذا النقاش التربوي، منها عدم تنضباط الأفراد في العديد من المجتمعات لإجراءات “الحجر الصحي” و”حالة الطوارئ”، التي فرضتها غالبية الأنظمة السياسية بالعالم للوقاية من الفيروس. فيمكن تفسير عدم الانخراط بالنظر إلى اعتبار الإنسان كائنا “عاشقا الحرية”، كما يمكن تفسير ذلك باعتبار الإنسان “جاهلا” بالمعرفة العلمية وغير مصدق توجيهات العلم، التي تحمي حقه في الحياة وحقوق من يتقاسمون معه هواء المحيط المشترك.
لكن من بين التفسيرات المهمة، التي يمكن تقديمها لتهور الإنسان المعاصر في مثل هذه الظرفية الدقيقة، هي نوع التربية التي يتلقاها الأفراد، ومدى نجاعة آليات التنشئة الاجتماعية المعتمدة بمختلف المجتمعات في تكوين وبناء الإنسان العاقل الأخلاقي والمسؤول عن أفعاله.
في هذا السياق، ينبغي الاعتراف بأن هناك خللا كبيرا في نوع المبادئ، التي تستند عليها عملية تربية الناشئة والأجيال الصاعدة، (هذا إن كانت هناك مبادئ واضحة أصلا) وهو ما يجعل الغالبية من الناس، تجد نفسها غير قادرة على الاختيار السليم والتصرف المسؤول والانضباط الحكيم لقواعد العقل، سواء أثناء فترات مواجهة الأزمات أو بدونها.
وإذا كان لابد من نمذجة ينبغي تقديمها لتأكيد القول الأخير، فليس هناك أفضل من نموذج مجتمعنا المغربي، حيث القضية التربوية، باعتراف الجميع سياسيين كانوا أو تربويين أو مثقفين، هي القضية المصيرية الأكثر تعقيدا والأكثر تشعبا، نظرا لارتباطها بأبعاد تاريخية وثقافية و سياسية واقتصادية متشابكة، وهذا التعقيد والارتباك تبرز ملامحه من خلال العديد من المظاهر والمؤشرات منها:
– لعب المنظومة التربوية ببلادنا على حبلي الأصالة والمعاصرة، فلا هي بتربية “محافظة” على مقومات التراث الماضوي، ولا هي بتربية “حداثية” ترتكز على مفاهيم العقل والحرية و التقدم. لذلك فهي منظومة تنتج عموما “إنسانا منافقا غير متصالح مع ذاته ومع الشعارات الرنانة التي ترفعها هذه المنظومة باستمرار”.
– الضعف الفادح للكفاءات المعرفية والأخلاقية لدى الأجيال الصاعدة سنة بعد أخرى. فمعرفيا نجد أن نمو نسب النجاح والحصول على الشواهد بالمدارس والجامعات المغربية مثلا، لا يعكس حقيقة المستوى المعرفي الأكاديمي الهزيل. نفهم هذا الوضع خاصة عندما تحصل منافسة بين عينة من المتمدرسين المغاربة وعينات من دول أخرى قريبة أو بعيدة. أما أخلاقيا فارتفاع مظاهر العنف والغش وكل السلوكات اللامدنية بالوسط المدرسي وخارجه بشهادة المدرسين والآباء والمتتبعين للشأن التربوي، كفيل بتبيان أزمة القيم لدى الناشئة.
– عدم تنمية ملكة الحس النقدي وروح الإبداع والابتكار بالمؤسسات التنشئوية عموما وبالمدرسة على وجه الخصوص. فالطفل بالأسرة المغربية، غالبا ما يجد نفسه في إطار مقولة “إعادة الإنتاج”، فهو مطالب بالامتثال “لمنظومة قيم متناقضة”، وهو امتثال يستند على مبادئ الطاعة وآليات الثواب والعقاب. وبالمقابل يبتعد عن وسائل الحوار والتشارك و مبادئ التعاقد.
أما داخل المدرسة فالتلميذ المغربي يجد نفسه و لو في قلب المواد العلمية مطالبا بالحفظ لا التفكير، وببلوغ النتيجة لا معرفة منهج استنباطها، و بتقديس المقرر لا بنقده وإبراز محدوديته، وهو ما يجعل رهان التسلح بالعقل وأدوات الشك والتساؤل والنقد، التي تراهن عليها مادة الفلسفة مثلا رهانا صعب المنال.
– سيادة مظاهر الأنانية والإنتهازية والوصولية سواء لدى الناشئة أو لدى من يفترض فيهم الحرص على تقديم النموذج المطلوب، واتضح ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، عندما تهافتت الحشود على مراكز التسوق الكبرى لشراء الأطنان من البضائع، في مشهد أقل ما يمكن القول عنه، أنه تجسيد لهمجية مرفوضة حتى في لحظات المجاعات الكبرى. فالتحليل البسيط لهذا المشهد، ببين أن شعار الأفراد المعلن في حياتهم اليومية، يستند على مقولتي “الغاية تبرر الوسيلة”، و”أنا ومن بعدي الطوفان”، وهو طبعا شعار يتنافى مع قيم المواطنة، التي تفترض أخلاق التضحية والتضامن من جهة، وإحداث التناغم المطلوب بين الحقوق والواجبات من جهة أخرى.
– جعل التافهين و”الغوغائيي” من “فنانين” ساذجين و”رياضيين” غير مهذبين بمثابة القدوة والنموذج، الذي ينبغي أن يحتدى به للأجيال الصاعدة. فتكريم هؤلاء على منصات الشهرة و حصولهم على أموال طائلة كمكافأة على تفاهتهم، كان له وقع وأثر سلبي على منظومة التربية، ما أدى إلى قلب القيم: فصارت قيم العقلانية والانضباط والمسؤولية مرادفة للتأخر ومثارة للسخرية، بينما أصبح التمرد وحفظ الأغاني الرديئة والتلفظ بالكلمات النابية وعدم احترام الغير هو ما يستحق الإعجاب و التقدير!
أكيد أن ما سبق ذكره من ملاحظات ومؤشرات سابقة، ليس إلا مظهرا بسيطا من مظاهر أزمة تربوية عميقة يمكن مقاربتها من خلال عدة زوايا. وعلى ما يبدو، أن الحجر الصحي، الذي فرضته “أزمة كورونا” يشكل فرصة ذهبية لمساءلة منظومة التربية والقيم السائدة في مجتمعات تائهة غير مالكة لمشروع تربوي واضح المرتكزات ومنسجم الأبعاد. فعودة كل مكونات الأسرة مكرهة إلى المنزل، يمكن أن يكون مدخلا لتحقيق العديد من “المكتسبات التربوية” منها:
– إعادة الاعتبار لمبادئ الإنضباط والمسؤولية لدى جميع أفراد المجتمع كيفما كان موقعهم أو سنهم أو جنسهم أو مستواهم التعليمي والإتتصادي. فاليوم ملايين البشر في كل أنحاء العالم، يدركون أن سلوكهم ينبغي أن يكون محسوبا وخاضعا لتوجيهات العقل والعلم. بذلك، فالتربية على هذه المبادئ، هو ما يجعل الإنسان يدرك أن المصلحة الشخصية لا تتحقق إلا من داخل نسق المصلحة الجماعية، وهذا الإدراك مدخل حاسم لتكوين الإنسان المواطن المتمتع بحقوقه والحريص على واجباته.
– فهم أهمية التربية على التضامن والتعاون سواء بين أفراد المجتمع الواحد أو بين الدول و الشعوب، ذلك أن “عدالة” فيروس كورونا جعلت الناس يدركون أنهم أمام مصير مشترك، رغم كل الإختلافات والتفاوتات الحاصلة بينهم. فاليوم صرنا نسمع تبرع الأغنياء بجزء من ثرواتهم لصالح المعوزين والفقراء، وعن تفكير الدولة فيمن لا يمتلكون أجرا قارا، وعن تعاون الأنظمة الإشتراكية (الصين) مع أعتى الأنظمة الرأسمالية (أمريكا)، غير أن المرجو بعد تجاوز أزمة الوباء، هو ترسيخ قيم التضامن مع الغير، عبر وسائل التربية لا توظيفها سياسيا وإيديولوجيا. فالعبرة المستخلصة من هذه الأزمة، هي أن المشترك الإنساني بين الناس أقوى وأعمق بكثير من الاختلافات القائمة بينهم، و عليه يصير التضامن قيمة عليا وواجبا أخلاقيا ومعيارا للتحضر.
– جعل الإنسان يدرك حجمه الطبيعي في هذا الوجود وإخراجه من نرجسيته وتمركزه الذاتي. فإذا كان رهان العلم الحديث هو تحقيق السيطرة على الطبيعة وتمكين الإنسان من جعله سيدا على كل مكوناتها. فإن قوة هذا الوباء وبقية الظواهر الطبيعية تثبت زيف ووهم هذا الرهان، حيث إن شعور الإنسان بالضعف أمام قوة الطبيعة وحتمية الموت، ينبغي أن يقوده إلى التفكير في الحفاظ على البيئة التي يعيش فيها من خلال احترام توازنات الطبيعة الكبرى، والحد من الاستغلال المتوحش لمواردها، وبذلك ينبغي أن تصير التربية البيئية مكونا أساسيا من مكونات المنهاج التربوي لكل الشعوب.
– تمكين الآباء بفضل أزمة الوباء من الاحتكاك الحقيقي بأبنائهم، فنمط العيش بالخصوص داخل المدن الكبرى كان يجعل أطراف الأسرة الواحدة في قارات متباعدة ولو أنهم يتقاسمون نفس الجدران والسقف الواحد، أما اليوم فتتاح الفرصة لكل أب ولكل أم لكي يتعرفا فعلا على أبنائهما، أي أن يدرك حاجاتهم ومشاكلهم ونوعية شخصيتهم. و بالتالي تستيعاب الآباء للمسؤولية الملقاة على عاتقهم، فليس إنجاب الأطفال هو وظيفة الأسرة، بل إنما وظيفتها هي توفير كل الموارد والوسائل، التي تمكن من تربية الأطفال وتمكينهم من الكفاءات السيكولوجية والثقافية لبناء شخصية متوازنة قادرة على الإندماج والإنخراط الإيجابي في المجتمع.
– جعل النظام التربوي بكل مكوناته (حكومة، وزارة، إدارة، أساتذة…) يفكر بشكل علمي و عملي في كيفية استثمار التكنولوجيا وتوفير الإمكانيات المادية والبيداغوجية والتقنية لتسخيرها بهدف تحقيق نجاح العملية التربوية، فالأكيد أن الأجيال الصاعدة هي أجيال “رقمية تكنولوجية”بامتياز، لذلك فما فرضته هذه الأزمة هو استثمار التطبيقات الرقمية لتدريس التلاميذ “عن بعد”، على أن الصعوبات والانتقادات الكثيرة لهذا النمط من التدريس يفرض انفتاح المنظومة التربوية على الوسائل التكنولوجية وحسن توظيفها حتى لا تبدو المدرسة “متجاوزة و غبية” أمام “تكنولوجيا و هواتف ذكية”.
حاصل القول إذن أنه إلى جانب إحصاء عدد المصابين والوفيات الناجمة عن الأوبئة والأمراض الفتاكة، ينبغي كذلك التفكير في كيفية جعل هذه الأزمات مدخلا للتفكير في كيفية إعادة تربية المجتمعات الإنسانية وفق قيم إنسانية أصيلة تؤمن بالأصل الواحد والمصير المشترك، أي التربية التي تحاول ما أمكن ألا تخضع للحسابات الإيديولوجية- الاقتصادية الضيقة، وتنتصر للقيم التنويرية العالمية كالتضامن والاحترام والغيرية. فاليوم لم يعد يهم خضوع نظام التربية لمرجعية الأصالة أو لمبادئ المعاصرة، بل ما يهم هو مدى نجاعة الأنظمة التربوية في تكوين إنسان عاقل منضبط مسؤول عن أفعاله واع بحقوقه الأساسية وملتزم بواجباته المواطناتية.
باحث في علم النفس الاجتماعي