لم تعد سياسة المغرب الهادفة إلى استرجاع مدينتي سبتة ومليلية السليبتين خفية على أحد. فتحركات المغرب في السنوات الثلاث الأخيرة تحيل على وجود خطة مغربية محكمة تهدف إلى إنهاء احتلالهما وإعادتهما للسيادة المغربية، باعتبارها الحضن التاريخي والجغرافي الطبيعي للثغرين المحتلين من طرف اسبانيا منذ قرون.
فمنذ احتلال مدينتي سبتة ومليلية في سياق الحروب الصليبية التي قادتها اسبانيا والبرتغال، لم يسبق للمدينتين المغربيتين السليبتين أن عاشتا وضعا مماثلا لما تعيشانه اليوم، رغم محاصرتهما أكثر من مرة من طرف ملوك المغرب من قبل. ذلك أن معطيات الحصار الحالي اختلفت عن سابقيه، لاسيما من حيث الخطة المحكمة التي يضعها المغرب لاسترجاعهما وإنهاء الاستغلال الاسباني للتراب المغربي.
الهجرة الجماعية خلال اليومين السابقين، التي وصفت بغير المسبوقة، كشفت جزءا من الخطة المغربية، التي تتضافر فيها مجموعة من المستويات، لتشكل ضغطا حقيقيا، يؤكد أن تحرير المدينتين بالنسبة إلى المغرب ليس إلا مسألة وقت فقط. فهي خطة متكاملة ترتكز على الخنق الاقتصادي، والتطويق الجيوسياسي، إضافة إلى استغلال المعطيات الديمغرافية، والضغط بروقة الهجرة.
محاصرة الوجود الاسباني في المدينتين بأساليب حديثة وناجعة، أصبح يثير استياء وحنق مدريد من السياسة المغربية، ما جعلها تعمل إلى جانب جنرالات الجزائر، على إطالة أمد النزاع المفتعل في الصحراء المغربية، والوقوف ظاهريا موقف الحياد السلبي، إلى جانب العمل على معاداة المصالح المغربية سرا. كل ذلك كشفه المغرب بفضحه ااستقبال اسبانيا زعيم جبهة “البوليساريو” على ترابها، وإصرارها على عدم تقديم أجوبة للأسئلة التي طرحها المغرب.
هجرة جماعية
رغم الصمت الذي لفّ تعامل الخارجية المغربية فيما يخص موضوع الهجرة الجماعية التي أغرقت مدينة سبتة المحتلة بالمهاجرين، إلا أن تصريحات كل من كريمة بنيعيش، السفيرة المغربية باسبانيا، التي قرر المغرب استدعائها للتشاور، وتصريحات المصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، كشفت أن العملية تمت في إطار الرد المشروع على المواقف العدوانية التي تتبناها مدريد تجاه المغرب في قضاياه الحساسة، آخرها استقبال زعيم جبهة “البوليساريو” المدعو إبراهيم غالي.
ملف الهجرة يعدّ من أبرز نقط الضغط التي يمتلكها المغرب ضد الاتحاد الأوروبي بشكل عام، ودولة اسبانيا بشكل خاص، فرفع المغرب يده عن مراقبة ومنع الهجرة السرية سيؤدي إلى إغراق أوروبا بالمهاجرين، وسيجعل دول الاتحاد، ومنها اسبانيا، في مواجهة مفتوحة مع آلاف الراغبين في الهجرة، وفق تقديرات المتتبعين.
وكشفت عملية الهجرة الجماعية، خلال اليومين الماضيين، التي وصل إثرها عدد المهاجرين لسبتة ما يناهز عشرة آلاف، وهو رقم أفزع السلطات الاسبانية، يشير إلى أن الأزمة الدبلوماسية بين الرباط ومدريد لم تعد صامتة كما كانت من قبل، وأن المغرب لم يعد يقبل على نفسه لعب دور “دركي” الهجرة، كما سبق أن صرح وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة.
وتضع المستجدات الأخيرة السلطات الاسبانية أمام تحد جديد، يتعلق بتأمين الحدود المفترضة للمدينتين، والاضطلاع بمسؤولياتها في ذلك، بدل الاعتماد على جهود المغرب في هذا الجانب، مقابل معاكسة مصالحها في ملفات أخرى، منها أساسا ملف الصحراء المغربية.
خنق اقتصادي
من الناحية الاقتصادية، لم يبق المغرب مكتوف الأيدي أمام الانتفاع الاقتصادي لاسبانيا على حساب مصالحه، من خلال استغلالها المعابر الحدودية لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين فيما عرف لسنوات طويلة بالتهريب المعيشي، ليأتي القرار الصارم بإغلاق الحدود وقطع العلاقات التجارية والاقتصادية مع المدينتين، مسببا بذلك في أزمة اقتصادية غير مسبوقة للمدينتين، زادت من تأثيرها تداعيات جائحة كورونا.
وإلى جانب القرار الذي قطع الطريق أمام سلطات اسبانيا وأثار غضبها، عمّق المغرب من حصاره الاقتصادي لسبتة ومليلية المحتلتين، من خلال تقوية اقتصاد المدن المجاورة لهما، عبر خطة تشييد المناطق الصناعية، إضافة إلى تشييد ميناء طنجة المتوسط، وكذا ميناء الناظور الجديد، وهي مشاريع ستزيد من تنافسية المدينتين مقابل التراجع المستمر للمكانة الاقتصادية لكل من سبتة ومليلية المحتلتين.
التغيير الديمغرافي
إلى جانب باقي الأساليب التي يعتمدها المغرب لمحاصرة النفوذ الاسباني بالمدينتين المحتلتين، تشير معطيات إلى اعتماد المغرب خطة استراتيجية محكمة لتغيير الملامح الديموغرافية بالثغرين، وهي خطة بدأت تعطي أكلها، ويتوقع أن تكون نتائجها مبهرة في السنوات المقبلة.
وتقدم الإحصائيات المتوفرة، معطيات مهمة جعلت اسبانيا تدق ناقوس الخطر. فمعدل المغاربة القاطنين بمدينة سبتة انتقل من 18 في المئة سنة 1986، حيث كان عددهم يبلغ 12 ألف شخصا، لتصل اليوم نسبة مغاربة سبتة ما يفوق 53 في المئة من مجموع السكان أي ما يقدر بحوالي 100 ألف شخص.
كذلك الأمر بالنسبة إلى مدينة مليلية المحتلة التي بلغ فيها تعداد المغاربة سنة 1986 لما يناهز 17 ألف مغربي، ما يقدربـ 32 في المئة من مجموع السكان، ليصل اليوم إلى ما يناهز 85 ألف شخص، بنسبة 46 في المئة من السكان من أصول مغربية.
ومن شأن هذه التطورات أن تساهم في تغيير الكثير من المعطيات على الأرض، ذلك أن الأغلبية العددية من شأنها أن تحدد في الخيارات المستقبلية للمدينة، ولعل خير مثال على ذلك نموذج جزيرة القرم، التي عمدت روسيا على تغييرها معطياتها الديمغرافية على امتداد سنوات، إلى أن جاء قرار الاستفتاء الذي أعادها للسيادة الروسية بعدما كانت تابعة لأوكرانيا.
تطويق جيوسياسي
لجأ المغرب إلى إغلاق الثغرات الاقتصادية التي راكمت الأرباح الطائلة لاسبانيا وسلطات المدينتين المحتلتين، من خلال إنهاء ما عرف بالتهريب المعيشي، منذ سنة 2019، والذي كان شوكة ضارة في قدم الاقتصاد المغربي.
خطوة المغرب أدت إلى ارتفاع مطالب ساكنة المدينتين بتدخل حكومة مدريد لإنقاذ الوضع، وفجرت احتجاجات داخل الثغرين، ما نتج عنه وعي بدرجة إخلال اسبانيا بالتزاماتها تجاه المدينتين اللتين عاشتا لسنوات طويلة أوج انتعاشهما بفضل العلاقات مع الاقتصاد المغربي.
وأدى الحصار المغربي إلى تقليل عدد السفن والطائرات القادمة إلى المدينتين، بشكل أضعف ارتباطهما الاقتصادي باسبانيا، هذه الأخيرة التي لم تكن ترى فيهما سوى نقطة لتصدير البضائع وجلب الأرباح دون تكاليف تذكر.
كما أن المغرب يمتلك أوراق ضغط أخرى على سلطات اسبانيا بالسليبتين، منها إمكانية قطع الكهرباء والغذاء والسمك، وكذا إغلاق أجوائه ومياهه الإقليمية عند الحاجة لذلك، ما زكاه قرار ترسيم الحدود البحرية المغربية، ما يعني أن المغرب قادر على محاصرة المدينتين جوا وبرا وبحرا، مع استحضار ما يشكله ذلك من ثقل على المستوى الجيوسياسي.
جل المستويات السابقة، تشكل معالم الخطة المحكمة المعتمدة من أجل تحصين المصالح المغربية في المنطقة، والتي تقوم دولة اسبانيا بمعاداتها، في أفق استرجاع المدينتين المحتلتين إلى حضنهما المغربي، وإيقاف السياسة الإسبانية المخالفة لمبادئ حسن الجوار.