تاريخ الحروب التي خاضتها البشرية في مواجهة الأوبئة حافل بحكايات عن الهزائم والانتصارات؛ وما بين الأولى والثانية جولات ومعارك متعددة تكشف أن حسم الحرب ضد وباء ما يستلزم الوقت والجهد والكثير من الحيطة والحذر.
دروس الماضي ضد الكوليرا والطاعون والإنفلونزا تخبرنا أن الوباء عدو عنيد يفتك بالإنسان دون رحمة، يظهر ويختفي، ثم يخرج طفراته المتحورة كأنه يسابق المختبرات المستميتة في البحث عن لقاح/ترياق يوقف زحفه المفجع.
كذلك هو فيروس “كورونا”، آخر وباء يشهده العصر الحديث الذي أضحى كابوسا يقض مضجع العالم بأسره، فمنذ أواخر سنة 2019، والأعين على مؤشرات الإصابات والوفيات وحالات الشفاء، وأيضا على الأبحاث الطبية عن لقاح يخلص العالم من هول الكارثة.
دروس الماضي تحذر، أيضا، من أن التخلص من هذه الأوبئة لا يتم بين عشية وضحاها، وأن وباء “كورونا” وإن خ فت بعض الوقت وتراجعت أعداد ضحاياه وانطلقت عمليات التلقيح لتشديد الخناق عليه، فذلك لا يعني بتاتا أنه تم التخلص منه نهائيا، فالفيروسات لها دورة طبيعية تتأقلم مع المواسم ومع السلوكيات. الوضع القائم، إذن، لا يوحي بالاطمئنان، فالفيروس مازال يتمدد والسلالات المتحورة المعدية أصبحت تجتاح العالم.
أما في المغرب فائتلاف المختبرات المسؤول عن المراقبة الجينية وتتبع السلالات المنتشرة على المستوى الوطني أكد اكتشاف 21 متحورا جديدا من السلالات الإنجليزية.
الانحسار النسبي للوباء لا يبرر التسرع في التخلي عن التدابير الوقائية
صحيح أن الإعلان عن التوصل لعدة لقاحات أثبتت فعاليتها ضد الوباء، وانطلاق عملية التطعيم للقضاء على الجائحة العالمية في عدد من البلدان ومن بينها المغرب، شكل بارقة أمل في نهاية نفق مظلم، إلا أن ذلك لا يبرر هذا التسرع المفرط في التخلي عن التدابير الوقائية وعدم ارتداء الكمامة الواقية وعدم احترام التباعد الجسدي.
في السياق ذاته يقول رئيس الفيدرالية الوطنية لأطباء التخدير والإنعاش البروفيسور جمال الدين الكوهن، إن انطلاق عملية التلقيح بالمغرب كان بمثابة جرعة أمل في غد أفضل، لاسيما أن الملك محمد السادس، أبى إلا أن يكون أول من يتلقى التلقيح، انسجاما مع حرصه الشخصي منذ بداية الجائحة على إعطاء الأولوية لصحة وسلامة المواطن. ولاحظ البروفيسور الكوهن، أن هذه الحملة التي كانت ذات طابع تطوعي من أجل مناعة جماعية أضحت مسيرة تشاركية ذات طابع وطني، ولاسيما بعد مرور سنة على تفشي هذه الجائحة بعواقبها على الصحة الجسدية والنفسية من جهة، وتداعياتها الخطيرة الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى.
ولم يفت هذا الإطار الطبي التنبيه إلى خطورة التراخي في الالتزام بالتدابير الاحترازية أثناء حملة التلقيح وطيلة المدة التي تسبق التمنيع الجماعي، لأن اللقاح، في الأصل، جزء مهم من التدابير، “ولا يعفينا البثة من مواصلة التقيد بهذه التدابير، لا على الصعيد الشخصي ولا الجماعي”.
التلقيح الفردي، في نظر هذا المختص، لا يعني مناعة شخصية مائة في المائة من جهة، وقد يصاب الشخص الملقح بالمرض، ومن جهة أخرى فإن الهدف من هذه الحملة هو التمنيع الجماعي بتلقيح أكبر عدد من الساكنة، حوالي 80 بالمائة للحد من حركية الفيروس في الانتشار بين الأشخاص، علما بأن الفيروس لن يندثر كليا على الأقل في الشهور المقبلة.
وأكد، في السياق ذاته، على ضرورة الأخذ بكل التدابير المرحلية بما فيها التلقيح الفردي ومواصلة التدابير الاحترازية الشخصية والجماعية أكثر من أي وقت مضى، للوصول في أقرب الآجال الممكنة لتمنيع جماعي، وحتى يتمكن المواطن من استرجاع حياته “شبه العادية”، ف”المعركة أشواط لم تنته أطوارها بعد، والسيطرة عليه لا تزال بحاجة الى أشواط إضافية وحاسمة”.
فعلى الرغم من الاستقرار النسبي الملحوظ أخيرا، يحذر البروفيسور الكوهن، “الفيروس لا يزال بيننا فعلينا البقاء يقظين في مواجهة الخصم الذي قد يفاجئنا في موجة أخرى أو طفرة أخطر”.
حتى لا يتحول النجاح في محاصرة كورونا إلى إحساس بانتصار واهم
أما الأستاذ الباحث في علم الاجتماع علي شعباني، فأوضح، في حديث مماثل، أن المغاربة لم يكونوا قد عاشوا هذه التجربة من قبل، وكانوا يسمعون عن الأوبئة الأخرى التي فتكت بمئات الآلاف من الناس، وخلفت مآسي كبيرة على الحرث والنسل، ومنهم من سبق له أن قرأ عما عرفه المغرب من قبل من أوبئة ومن أمراض أخرى فتاكة، لكن أن يختبروا صرامة الحجر الصحي وقسوة الطوارئ الصحية كما يعيشونها حاليا، فهذه تجربة جديدة عليهم بالمرة.
وأضاف الباحث في الشأن الاجتماعي أنه بعد الصدمة الأولى وبعد تسجيل انحسار في تفشي وباء “كورونا”، لوحظ نوع من التراخي واللامبالاة في مواجهة الوباء في كل مكان، وذلك على الرغم من التنبيهات والتوجيهات سواء من لدن المختصين في مجال الصحة، أو المسؤولين ووسائل الإعلام بشتى أصنافها.
كل هذه الجهات حذرت من تبعات هذا التراخي على صحة المواطنين، ونبهت لإمكانية تمديد إجراءات الطوارئ الصحية في البلد، وما يترتب عن ذلك من آثار سلبية على الاقتصاد وتأخير العودة للحياة “العادية” التي يتطلع إليها كل المواطنين، يؤكد الأستاذ شعباني. وأوضح أن شرائح واسعة من المغاربة أصبحوا يتجولون بدون كمامات، وعادوا إلى الأساليب القديمة في السلام والعناق، وأضحوا لا يحترمون التباعد الصحي والابتعاد عن الاكتظاظ في الأماكن العامة، وفي وسائل النقل وبالمتاجر الكبرى، وكأن الحياة عادت لسابق عهدها.
ولكي لا يتحول النجاح الذي تم تحقيقه في محاصرة “كوفيد 19″، من خلال الكثير من التدابير الوقائية وعملية التلقيح، إلى إحساس بانتصار واهم، يرى المتحدث أنه لا بد من الاستمرار في التحسيس بضرورة الالتزام بما س ن من إجراءات لضمان سلامة المواطن الجسدية والنفسية، معتبرا أن هذا الورش الصعب وطويل المدى يعتمد على العمل على رفع وعي الناس بكل شرائحهم الاجتماعية وأعمارهم ومستوياتهم التعليمية، لأنه بدون وعي وبدون الإحساس بالمسؤولية لن تجدي أبدا كل الإجراءات.
وإلى أن تتحقق مناعة جماعية ضد هذا الوباء العنيد الم ت ف لت، الذي ما إن ي حاصر بلقاح حتى ي خرج طفراته الجديدة، ستبقى الأنفاس محبوسة متطلعة للإعلان عن خلاص دائم وانتصار حقيقي يخلص البشرية من قبضته. فجائحة “كورونا” ليست الأولى التي تقسو على الإنسان ولن تكون، بالتأكيد، الأخيرة؛ والعالم ما قبل “كورونا” لن يكون هو ذاته بعدها، ليبقى التساؤل مطروحا هل استخلص الإنسان الدرس من الجائحة التي أثبتت أن الإنسانية جمعاء في مركب واحد؟