رغم مضي خمس سنوات على إقرار نظام التوظيف بالتعاقد في حقل التعليم، مازالت ارتدادات القرار الذي اتخذته حكومة عبد الإله بنكيران مستمرة، لاسيما مع استمرار تصاعد احتجاجات “تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد”، والإضرابات والتظاهرات المتكررة التي يخوضونها، للمطالبة بإدماجهم في أسلاك الوظيفة العمومية، مقابل مواجهتها بالمنع بالقوة في الرباط ومدن أخرى.
وأمام كل هذه التطورات مازالت بوادر حل الملف غير واضحة، لاسيما أمام رفض الأساتذة قبول الصيغة التي جاءت بها الوزارة، والمتعلقة بإقرار نظام أطر الأكاديميات الجهوية، والقول بإلغاء نظام التعاقد، نظرا لوجود العديد من النقاط العالقة، ما أغلق الحوار بين الوزارة وتنسيقية الأساتذة، وأنذر باستمرار الأزمة داخل القطاع.
بروز الصراع
غير بعيد عن هذا المشهد، يوجد صراع كبير بين قوى سياسية في البلاد، حول موضوع ما يعرف بـ “الأساتذة المتعاقدين”، خصوصا بين حزبي الاستقلال، الذي تزعّم الحكومة في فترات سابقة، وحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة للمرة الثانية على التوالي، وفي ولايته خرج القرار المشترك، للتوظيف بالتعاقد إلى حيز الوجود.
وترجع أسباب الصراع إلى تبادل الاتهامات بين كل من حزب الاستقلال و “البيجيدي” بشأن من يتحمل المسؤولية في خروج قانون التوظيف بالتعاقد إلى حيز الوجود.
الصراع وتبادل الاتهامات بين الحزبين، تمظهر بالأساس، في إطلاق كبسولات إعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لشرح جذور بروز قضية “الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد”. ويسعى كل حزب إلى إلصاق المسؤولية للآخر والتملص من مسؤوليته في القرار، وتبعا لذلك، التملص من التفكير في حلول لملف يتعقد يوما بعد يوم.
اتضح ذلك، من خلال إطلاق حزب الاستقلال، فيديو عبر صفحته الرسمية، يوم 04 أبريل الجاري، محملا مسؤولية التعاقد لحزب العدالة والتنمية، الذي سبق أن أطلق فيديو عبر صفحته الرسمية، يوم 30 مارس الماضي، لينفي مسؤوليته عن القرار، ويلصقها لحكومة الاستقلال، التي قادها عباس الفاسي.
ويأتي التشنج، في وقت ارتفعت فيه وتيرة احتجاجات الأساتذة المتعاقدين، الذين قرروا عقب مجلسهم الوطني الأخير، إلى جانب الإضرابات والنزول إلى العاصمة الرباط، الاستمرار في الانسحاب من مجالس المؤسسة، وتجميد أنشطة النوادي التربوية ومقاطعة لقاءات المفتشين والأستاذ الرئيس وامتحانات التأهيل المهني، ومقاطعة اقتراح الامتحانات الإشهادية، والاستعداد لمقاطعتها حراسة وتصحيحا، ومقاطعة تطبيق مسار كليا والعمليات المرتبطة به.
“البيجيدي” يتملص
رغم أنه يقود الحكومة للولاية الثانية على التوالي، ورغم صدور القرار المشترك لإقرار التعاقد خلال ولايته، وعوض أن يعمل سعد الدين العثماني على حل الملف باعتباره رئيسا للحكومة، مازال “االبيجيدي” يتهرب من المسؤولية ويرمي بها للحكومات السابقة، وخاصة التي رأسها عباس الفاسي.
وجاء في الفيديو المنشور على صفحة العدالة والتنمية، أن “خيار التوظيف بالتعاقد، تم إقراره من طرف حكومة عباس الفاسي سنة 2011، بموجب تعديل أدخلته على قانون الوظيفة العمومية، دون ربط ذلك بالترسيم في أسلاك الإدارة العمومية”، مضيفا بأنه “في سنة 2016، لجأت حكومة بنكيران، على سبيل الحاجة إلى التعاقد في أسلاك التعليم اعتمادا على القرار السابق لحكومة عباس الفاسي”.
وأوضح “البيجيدي” في الفيديو نفسه، أنه في سنة 2000، صدر القانون رقم 00/07 الخاص بالأكاديميات الجهوية لمهن التربية والتكوين، مؤكدا أن القانون اعتبرها مؤسسة عمومية مستقلة، غير أن وزارة التربية الوطنية في حكومتي جطو والفاسي، لم تخرج الأنظمة الأساسية لهذه الأكاديميات.
“البيجيدي” يضيف أن غياب الأنظمة الأساسية للأكاديميات، فضلا عن الاكتظاظ في جميع الأسلاك التعليمية، دفع حكومة بنكيران، إلى اعتماد عقود وقّعها كل أطر الفوج الأول، الناجحين في مباريات التوظيف الجهوية سنة 2016″، مشيرا إلى أنه في سنة 2017، ألغت حكومة العثماني نظام التعاقد، وعوضته بنظام توظيف الأساتذة أطر الأكاديميات، وعملت على إخراج الأنظمة الأساسية للأكاديميات، بما يتيح لها التوظيف جهويا كمؤسسات عمومية”.
الاستقلال يواجه
لم يتأخر رد حزب الاستقلال كثيرا للرد عن الاتهامات التي وجهها إليه حزب العدالة والتنمية، إذ أطلق هو الآخر عبر صفحته الرسمية، فيديو تعريفي لتحميل العدالة والتنمية المسؤولية، لافتا إلى أن “التعاقد كان معمولا به في الإدارة العمومية منذ الستينات، وهو عقد خاضع للقانون العام، ويتم اللجوء إليه في حالات خاصة ومحدودة، وهو منشور في البوابة الرسمية لوزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة”، مضيفا بأنه إلى حدود هذه المرحلة “كانت الأمور عادية، لأن التعاقد كان استثناء في القانون، لكن في سنة 2016 مع حكومة عبد الإله بنكيران، أصبح التوظيف بالتعاقد هو القاعدة، بناء على مرسوم جاءت به الحكومة نفسها في 9 غشت 2016، والذي يعتبر الإطار القانوني الذي على أساس تم اعتماد هذه الآلية”.
وشرح حزب الاستقلال أن “المرسوم فيه نوعين من التعاقد، الذي يبقى ظرفيا ومؤقتا، الأول هو التعاقد مع الخبراء، أما النوع الثاني هو التعاقد مع الأعوان، والذي ليس له أي علاقة بالتعاقد مع الأساتذة، الذي تم اعتماده سنة 2016. المرسوم استند على الفصل السادس مكرر من القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية، والذي يقول “يمكن للإدارة العمومية، عند الاقتضاء، أن تشغل أعوانا بموجب عقود، وفق الشروط والكيفيات المحددة بموجب مرسوم، لا ينتج عن هذا التشغيل، في أي حال من الأحوال، حق الترسيم في أطر الإدارة”.
وأكد الحزب ذاته أن هذا الفصل، جاء ليعطي إمكانية للإدارة العمومية، في حدود ضيقة، من أجل التعاقد مع بعض الأعوان، الذين من الممكن أن تحتاجهم للقيام بمهام خاصة، لمدة محددة في الزمن، وهي ما بين سنة وأربع سنوات كحد أقصى، وأيضا لإعطاء صبغة قانونية للتعاقد مع الأعوان، الذين يقومون بمهام بسيطة داخل الإدارة، بعد حذف السلالم من واحد إلى أربعة داخل الإدارة، وهو القرار الذي جاء بعد نجاح الحوار الاجتماعي في 26 أبريل 2011 بين الحكومة والنقابات وكانت نتيجته حذف هذه السلالم الإدارية.
وقال حزب “الميزان”، إنه بعدما كان التعاقد استثناء، اعتمدته حكومة العدالة والتنمية، كسياسة عمومية للتوظيف في قطاع حيوي مثل التعليم، كما أضاف الفيديو إلى أن حكومة العدالة والتنمية تجاوزت النصوص القانونية السابقة، وأصدرت القرار المشترك بين وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي ووزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، بتاريخ 1 نونبر 2016، تم خلاله لأول مرة توظيف 11 ألف أستاذ متعاقد سنة 2016، لتكون حكومة العدالة والتنمية، أول حكومة تدخل التعاقد كإطار قانوني للتوظيف في قطاع التعليم.
الفيديو أيضا أشار إلى أن نزار البركة، الأمين العام الحالي لحزب الاستقلال، حينما كان وزيرا للاقتصاد والمالية في حكومة بنكيران الأولى رفض اعتماد آلية التوظيف بالتعاقد، محملا مسؤولية إغراق قطاع التعليم عبر التوظيف بالتعاقد لحكومة العثماني التي استمرت على نفس نهج الحكومة السابقة، والأكثر من ذلك أن حكومة العثماني أدخلت التعاقد لمشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، وقال أن الفريق الاستقلالي في مجلس النواب أسقط التعاقد من القانون الإطار وأنه كان الوحيد الذي دافع عن ذلك.
حزب الاستقلال، أعلن من خلال الفيديو، رفضه لهذا التعاقد، واعتبر أنه يكرس الهشاشة وعدم الاستقرار الوظيفي لأسرة التعليم، مضيفا أنه “:بعد تصاعد الاحتجاجات قامت الحكومة، من أجل الخروج من الورطة، بإصدار الأنظمة الأساسية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والتي يشكل التوظيف فيها امتداد للتوظيف بالتعاقد في ظل غياب المساواة مع أنظمة الوظيفة العمومية”.
وقال الاستقلال إن الوضع السالف نتج عنه “وجود نظامين للتوظيف، الأول مرتبط بالتوظيف في أسلاك الوظيفة العمومية، والثاني نظام مرتبط بالتوظيف بالتعاقد وهو النظام الذي يكرس التمييز بين الأساتذة والحيف في حق فئة واسعة من حقها أن تستفيد من جميع الحقوق”، مضيفا بأن “الحكومة أصبحت تعتمد كسياسة استراتيجية وكقاعدة عامة والدليل على ذلك أنها تتجه اليوم إلى إقراره في قطاع الصحة”، متسائلا عن كيف يمكن بناء نموذج تنموي جديد في البلاد في ظل إضعاف الحكومة قطاعين حيويين هما الصحة والتعليم.
استغلال سياسي للملف
في الوقت الذي ينتظر فيه عشرات الآلاف من الأساتذة حلا عادلا لملفهم، وأمام ترقب ملايين الأسر المغربية لانفراج في الملف، تسعى قوى سياسية إلى استغلال الملف سياسيا بطريقة لا تشي بالبحث عن حلول. ورغم عدم وضوح الدوافع وراء تبادل الاتهامات بين الحزبين، إلا أن الكثير من البوادر تشير إلى أن الحزبين يسعيان إلى استمالة الناخبين، عبر التملص من المسؤولية في الملف، خاصة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، والصدى الكبير الذي عرفه ملف “الأساتذة الذي فرض عليهم التعاقد”.
وعمد “البيجيدي” الذي واجه انتقادات كبيرة بسبب مجيء التعاقد، خلال حقبته الوزارية، إلى التهرب من المسؤولية، عبر إلصاقها بالاستقلال الذي قاد الحكومة، وعاد بدوره لينفي المسؤولية عنه ويلصقها بالعدالة والتنمية، الأمر الذي يفيد بوجود مواجهة جديدة بين الحزبين ساحتها ملف التعاقد.
وجدير بالذكر أن عدد الأساتذة الذين يلتحقون سنويا بنظام أطر الأكاديميات يواصل الارتفاع سنويا، الأمر الذي يفيد بأن الملف سيعرف تطورات مستقبلية، خصوصا أن السلطات شرعت في تنفيذ مجموعة من الاعتقالات في حق الأساتذة المحتجين، ما يجعل الصراعات بين الحزبين بعيدة عن واقع الملف، الذي ينتظر حلا معقولا، بدل تبادل الاتهامات بين الحكومة الحالية والحكومات السابقة.