لم يكن أشد المناضلين تشاؤما، يتوقعون أن تستمر معركة لأزيد من 160 عقدا من الزمن دون أن تصل مبتغاها. لكن ذلك يصبح أمرا واقعا، عند استحضار معركة المرأة، التي لم تضع أوزارها بعد. فبين أول خروج لها لنفض غبار التهميش عن النساء سنة 1856، وتخليد اليوم العالمي للمرأة سنة 2021، جرت مياه كثيرة غسلت بعضا من الإقصاء في حق المرأة، ومكنتها من بعض المكاسب، لكن المؤشرات تؤكد أنه مازال أمام من يُعتبرن نصف المجتمع، عشرات السنين الأخرى، ليصرن بمثل حقوق الرجل، ويذوب التمييز في حقهن إلى غير رجعة.
وبينما تحول الاحتفاء باليوم الأممي للمرأة، في الثامن من مارس كل سنة، قريبا من الاحتفال الفولكلوري، ومن تقديم تهاني جوفاء، أو كلمات اعتراف تلقى في ندوات، والتفاتات خجولة، وفي أحسن الأحوال تقييم وضعية النساء وتجديد المطالب المشروعة، يخفي هذا اليوم قصة طويلة من الكفاح والنضال والتمسك بالحق في المساواة، كما يخفي معركة طويلة لم تفرش أمام النساء اللائي قدناها بالورود دائما.
لأنهن كن يعلمن أن المجتمع بذاكرة السمك، وقادر على إهمال وتناسي نصفه بسهولة، فقد اختارت مجموعة من النساء أن يرسخن تقليد الاحتفال بالثامن من مارس، احتفاء بطعم النضال ضد النقاط المظلمة في تاريخ الحضارة الإنسانية، التي لم تكن منصفة، وكرست وضعا للمرأة ينظر إليها فيه كإنسان من الدرجة الثانية.
وبين اختيار الثامن من مارس، من طرف النساء التي حملن المشعل أول مرة، للنضال ضد القهر المزدوج للمرأة، والوصول إلى إقراره من طرف الأمم المتحدة رسميا عيدا أمميا، سنوات طوال تطرح الكثير من الأسئلة حول أسباب التأخر، ذلك أن حتى الاعتراف، كان عليهن انتزاعه بعد مسيرة شاقة من النضالات ومن الاستغلال والإقصاء. ولذلك تستحق حكاية كفاحهن أن تروى!
بداية الحكاية!
في سنوات حالكة من القرن التاسع عشر، حين كان الإنسان يتفاخر بتشييد ثورته الصناعية، كانت النساء تعشن الحضيض، لاسيما العاملات منهن، فلما كان يعمل الرجل عشر ساعات بأجر يليق بمجهوده، وفي قاعات تضمن شروطا كريمة، كانت النساء يشتغلن لمدة تصل 16 ساعات، داخل مرآب تعشش فيها الرطوبة والأمراض، مقابل أجر هزيل لا يغطي مصاريفهن.
ولأن الضغط يولد الانفجار، ومسيرة رفع الظلم لابد لها من بداية، خرجت النساء العاملات في قطاع النسيج ذات ثامن من مارس سنة 1856 بمدينة نيويورك، للاحتجاج ضد أوضاعهن المزرية واللاإنسانية، لكن الشرطة واجهت احتجاجاتهن بالقمع، غير أن الهراوات الغليظة، لم تكن تكفي لإخماد نيران ألسنتها نون النسوة، بعدما اشتعلت وتغذت ببؤس ظروف العمل، الذي ذاقته المرأة حينها، حتى إنه لم يكن من حقها الإدلاء بصوتهن في الانتخابات.
ورغم محاولات الإخماد والمنع، كان النجاح في وضع الملف على طاولة النقاش السياسي والعمومي من نصيب هذه الاحتجاجات، التي كشفت ضرورة إعادة النظر في التعامل مع المرأة، وفي ضرورة بدء مسيرة إعادة الاعتبار.
الخبز والورد!
لأسباب ما خفتت احتجاجات النساء لسنوات طويلة، إلى أن أعيد إحياء النقاش بخصوصها من جديد سنة 1908، بعدما عادت آلاف النساء للاحتجاج من جديد بشوارع نيويورك، لكن الاحتجاج هذه المرة كان بحمل الخبز وباقات الورد، تعبيرا عن الحب والتعاطف والحق في العمل والمساواة، إذ طالبن بتخفيض ساعات العمل ورفع الأجور ومنح الحق في التصويت للنساء.
ومن هذه الاحتجاجات، نبعت الفكرة، فتأسست حركة “الخبز والورد”. فكانت نقطة انطلاق الحركة النسوية بأمريكا، لكن الحكاية لم يكتب لها أن تنتهي بمثل ما انتهت به احتجاجات القرن التاسع عشر. عادت النساء من جديد إلى الشوارع للاحتفال بالذكرى الأولى لتلك الاحتجاجات، ثم أعلن الحزب الاشتراكي الأمريكي الثامن من مارس عيدا وطنيا للمرأة.
بعد ذلك، سرعان ما انتشرت الفكرة في باقي بلدان العالم، خصوصا في أوروبا التي كانت نساؤها يعشن نفس وضع نساء أمريكا. فكان الاحتفاء بعيد المرأة سنة 1910، من خلال تنظيم مؤتمر بالعاصمة الدنماركية “كوبنهاغن”، حضرته 100 امرأة من 17 دولة. وخلاله اقترحت الناشطة الألمانية كلارا زيتيكن، أن يصبح الـ 8 من مارس يوما عالميا للمرأة، فوافقت الحاضرات على الفكرة.
ولأن الفكرة وجدت بالفعل تربتها، بدأت معركة النساء في انتزاع أول مكاسبها بعد سنة من المؤتمر، وحصلت نساء النمسا والدنمارك وألمانيا وسويسرا على حقهن في التصويت. وفي روسيا القيصرية، اندلعت الاحتجاجات سنة 1917، ضد القيصر وشهدت خروج النساء بقوة، حيث أضربت لأيام، إلى أن تم إسقاط القيصر، فنالت نساء روسيا بدورهن حق التصويت، إلى أن تم تعميم هذا الحق في أوروبا كاملة سنة 1945، بعد انعقاد أول مؤتمر للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في باريس.
اعتراف متأخر
رغم كل الأحداث السابقة، والاحتجاجات التي استمرت لعقود، واستمرار الاحتفاء باليوم العالمي للمرأة، إلا أن الأمم المتحدة انتظرت عشرات السنوات لتعترف بهذا اليوم الأممي، وكان ذلك سنة 1977، بعدما دعت حينها المنظمة إلى تخصيص يوم للاحتفاء بالمرأة، فوقع الاختيار مجددا على الثامن من مارس، فأصبح اليوم مناسبة للوقوف عند نضالات المرأة، والسعي نحو النهوض بوضعها.
وبعدها بات اليوم مناسبة للدعوة إلى المساواة بين الجنسين، وحفظ حقوق المرأة في العمل والتعليم وغيرها من الحقوق الأساسية، التي بإمكانها إنهاء مآسي النساء والنهوض بأوضاعهن.
معركة طويلة!
رغم التقدم المحرز عالميا بخصوص وضع المرأة، إلا أن الفجوة بين النساء والرجال مازالت قائمة، تؤكد أن معركة إحقاق المساواة الفعلية بين الجنسين طويلة ولم تنته بعد. فبعد أزيد من 165 سنة على إطلاق أول صرخات الرفض، مازال التمكين الحقيقي والمناصفة الفعلية غير موجودة تماما، حتى في البلدان المتقدمة والديمقراطيات العريقة.
وعن العمر الذي مازال أمام معركة نضال نصف المجتمع، تنبأ المؤتمر الاقتصادي العالمي (دافوس) بأن الفجوة بين النساء والرجال لن تغلق نهائيا إلا بحلول عام 2186، ما يفيد أن مزيدا من أجيال النساء قد يعشن أوضاع مزرية، بسبب جنسهن، وقد يتعرضن للعنف أو التحرش أو الاغتصاب، أو الاستغلال في العمل، أو غير من أوجه امتهان كرامة المرأة، لاسيما في البلدان التي لم تتخلص بعد من قيود التخلف بكل أشكاله. فمتى يغلق العالم قوس هذه المعركة، ويضع نقطة نهاية لمعركة “الخبز والورد”؟