بعد ما يناهز عشر سنوات من تربعه على رأس الحكومة، وخلال الأشهر الأخيرة من انقضاء الولاية الثانية، بات حزب العدالة والتنمية يعيش أوضاعا داخلية صعبة، بعدما تفجرت داخله الكثير من النقاط الخلافية، لم تنجح محاولات التغطية عليها، بعد نزيف الاستقالات التي ضربته، سواء من المناصب القيادية في الأمانة العامة والمجلس الوطني أو بالمناصب الحكومية، أو تلك التي قدمها أعضاء من عدد من فروعه.
ومن أبرز ما فجّر وضع الحزب داخليا، إعلان استقالتين بالغتي الحساسية داخل الحزب، من طرف كل من مصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، التي عزاها لأوضاعه الصحية، وإدريس الأزمي، رئيس المجلس الوطني وعضو الأمانة العامة للحزب، الذي أرجع سببها إلى ما سماه مسلسل التراجعات الكبيرة التي دخلها الحزب، وعدم رضاه عن الوضع الداخلي، وأسباب أخرى بسطها في رسالة لوم وعتاب.
حزب العدالة والتنمية كان قد عاش خلال الأشهر القليلة الماضية، موجة هزات بسبب استقالات بعض أعضاءه، قلل العثماني أهميتها خلال الدورة العادية للمجلس الوطني، رغم أن أسبابها أُرجعت إلى القرارات الجديدة التي اتخذتها الأمانة العامة في محطات عدة، رأوها مخالفة لمبادئ الحزب وقيمه المرجعية، وشكل قبول مشروع قانون تقنين زراعة القنب الهندي للاستعمالات الطبية والتجميلية آخرها، بعدما رأى فيه بعضهم مواصلة لـ “الانقلاب” ضد مرجعية الحزب.
قشة “الكيف”
رغم أن أزمة حزب العدالة والتنمية الحالية، لا ترتبط بملف واحد، إلا أن كثيرين ربطوا تفجر هذه الخلافات مع مشروع قانون تقنين القنب الهندي لاستعمالات طبية وتجميلية، والذي كان على طاولة المجلس الحكومي للمصادقة عليه، قبل أن يتم تأجيله لتعميق النقاش أكثر، خلال مجلسين حكوميين متتاليين، ما جرّ انتقادات استهدفت سعد الدين العثماني، الأمين العام للحزب، ورئيس الحكومة، بسبب انخراطه في “تبرير” التراجعات عن المواقف، التي سبق للحزب أن تبناها.
ولعل ما يؤكد أن مشروع القانون، كان من الأسباب التي فجّرت الخلاف داخل الحزب، تدوينات غاضبة لأعضاء الحزب، انتقدت “استعداد الحزب لتمرير كل شيء”. فرغم أن القانون لم يبح استعمال نبتة “الكيف” في استعمالات غير مشروعة، تناقض توجه الحزب، إلا أن بعض المنتمين لـ “البيجيدي” اعتبروا القانون مؤشرا على حجم “التراجعات” في مواقف الحزب، جرى تدشينها منذ الولاية الأولى، ووصلت مداها بعد طريقة تدبير الحزب انتخابات 2016.
وفي الوقت الذي مرّ الحزب من محطات، وتعرض لهزات، على امتداد ولايتين حكوميتين، جاء مشروع قانون تقنين زراعة القنب الهندي، ليصبح “القشة” التي تقسم “ظهر” حزب العدالة والتنمية، بعدما وصلت الخلافات داخله إلى الباب المسدود، وغاب النقاش الداخلي، لاسيما أنه كان على وشك الوصول إلى الوضع الحالي في محطات سابقة.
وحظيت استقالة إدريس الأزمي بالمتابعة، كونها جاءت متزامنة مع تأجيل المصادقة على مشروع القانون المذكور، الذي كانت الحكومة مستعدة لتمريره، وبررها بالقول “لأنني لم أعد أتحمل ولا أستوعب ولا أستطيع أن أفسر أو أستسيغ ما يجري داخل الحزب ولا أقدر أن أغيره، وعليه لا يمكنني أن أسايره من هذا الموقع أو أكون شاهدا عليه”، ما جعل متابعين يربطون الاستقالة وموقف الأمانة العامة للحزب، الذي لم يمانع تمرير قانون تقنين زراعة القنب الهندي.
وما يعبر عن أن مشروع القانون، على الرغم من وضوح مقاصده، خلّف رجة قوية داخل الحزب، مسارعة عبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق للحزب، إلى مشاركة تصريح قديم له في الموضوع، يرفض فيه تقنين زراعة القنب الهندي، الذي اعتبره متتبعون “مساهمة مقصودة” منه في تأجيج النقاش الداخلي، قبل أن يلوّح بالانسحاب من الحزب في حالة تصويت الحزب عليه.
ومن جانبه علق حسن حمورو، القيادي في شبيبة الحزب، على إدراج قانون تقنين القنب الهندي، ضمن جلسة المجلس الحكومي قائلا “بعد الانقلاب على النتائج السياسية لانتخابات 2016، وتمرير قانون فرنسة التعليم، ثم “التطبيع”، فضلا عن قوانين التمكين للكارتيلات والشركات… جاء دور تمرير “تقنين زراعة القنب الهندي”!، مضيفا إنها “ضربة جديدة تنتظر العلاقة بين السلطة والمجتمع… أليس منكم “حزب” رشيد!”.
وعبّر حموروا في تدوينة لاحقة، عن عجبه ممن ينتقدون الأزمي لاستقالته، متسائلا “هل هؤلاء يتابعون ما يقع في حزبنا بجوارحهم وبضمائرهم أم بشيء آخر؟، مشيرا إلى أنه “إذا كان هناك من ينبغي أن يلام على ما وصل إليه الحزب، فهي الأمانة العامة وعليها تحمل مسؤولية اختياراتها، التي خالفت فيها الكثير من الاختيارات المؤسسة للحزب، بل حاولت تغيير هذه الاختيارات خارج مساطر الحزب وقوانينه!”.
بنعرفة “البيجيدي”
الانتقادات التي تطال العثماني ليست جديدة. فمنذ صعوده إلى رئاسة الحكومة، وعواصف الانتقادات تلاحقه، بعدما جرى تنصيبه رئيسا للحكومة بعد إعفاء عبد الإله بنكيران عقب انتخابات 2016، وقبوله تشكيل الحكومة وفق الصيغة التي فرضها حزب التجمع الوطني للأحرار خلال المفاوضات، كان بنكيران رفضها لأشهر طويلة فيما عرف بأزمة “البلوكاج الحكومي”.
واعتبر كثيرون، حينها، أن قبول العثماني دخول حزب الاتحاد الاشتراكي الحكومة، وإقصاء حزب الاستقلال منها، وقبول كل شروط عزيز أخنوش، رئيس التجمع الوطني للأحرار، لتشكيل الحكومة، كان تمهيدا لمسار من التراجعات في مواقف الحزب، الذي فاز بالانتخابات للمرة الثانية على التوالي.
الكثير من التحليلات ذهبت إلى أن اختيار العثماني لمنصب رئيس الحكومة، لمرونة شخصيته، وقدرته على تقديم تنازلات كبيرة، سواء خلال مفاوضات تشكيل الحكومة، التي طالت لأشهر، أو فيما يتعلق بالقرارات الكبرى التي اتخذت خلال رئاسته، منها تمرير قوانين توصف بـ “اللا شعبية”.
ووجهت الكثير من الانتقادات لسعد الدين العثماني، خلال الولاية الحكومية الحالية، لاسيما من طرف أنصار الحزب، الذين اعتبروا قراراته تراجعا عن قيم الحزب ومبادئه الأولى، التي كانت سببا في التحاق كثيرين به، وفي نيله المنصب الأول في الانتخابات التشريعية لولايتين متعاقبتين، ما ساهم في خلق أزمة داخل الحزب، وفي إطلاق دعوات متعددة للتدخل من أجل وقف النزيف والتوافق على أرضيات جديدة مجددا.
رجة “التطبيع”
شكل توقيع سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، الأمين العام للعدالة والتنمية، اتفاق عودة العلاقات المغربية الإسرائيلية، ضربة قاضية للحزب، مازالت انعكاساتها مستمرة إلى اليوم، رغم نجاح العثماني في تجاوز عقبة المؤتمر الاستثنائي، الذي كان يروم الإطاحة به من زعامة الحزب، وتأكيده في أكثر من مناسبة، أن حزبه لم يغير موقفه من القضية الفلسطينية، إلا أن هذه التبريرات لم تكن مقنعة لعدد من أعضاء الحزب، الذين فضل بعضهم تجميد عضويته في الحزب، أبرزهم البرلماني المقرئ أبو زيد الإدريسي وعبد العزيز العماري رئيس مجلس مدينة الدار البيضاء.
وكاد توقيع العثماني الإعلان الثلاثي، أن يخلف تأثيرات أوسع داخل الحزب، لولا تدخل عبد الإله بنكيران للمدافعة عن الأمين العام، داعيا إلى إمهاله الوقت لشرح دوافعه، ومطالبا أعضاء الحزب بضرورة التزام الصمت، لأن إعلان الموقف يكون في البداية، وأن الحزب لا يمكن أن يخذل الدولة والملك في لحظة حساسة، الأمر الذي اعتبره مهتمون محاولة من بنكيران للعودة إلى المشهد بقوة، في أفق كسب الثقة مجددا، والعودة إلى الأمانة العامة للحزب.
وخلف موقف العثماني وبعض وزارئه من عودة العلاقات مع دولة إسرائيل، موجة كبيرة من الانتقادات، التي اتهمت الحزب بالتراجع عن واحد من أبرز المواقف، التي طالما رددها وتغنى بها وسط أنصاره، أي موقف “رفض التطبيع”، بعدما كان العثماني قد صرح قبل فترة غير طويلة، أنه ضد مثل هذا القرار، لما يشكله من خطر على القضية الفلسطينية.
“فرنسة” التعليم
من المواضيع التي ساهمت أيضا في ارتجاجات داخل حزب العدالة والتنمية، القانون الإطار لإصلاح التعليم، الذي تضمن بندا حول تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، خلق أزمة كبيرة بعد خروج عبد الإله بنكيران لمعارضة مضامينه في بث مباشر، داعيا سعد الدين العثماني إلى رفضه أو تقديم استقالته من رئاسة الحكومة.
وكانت خرجة بنكيران سببت حرجا كبير للعثماني، وأجلت جلسة التصويت على القانون، التي كانت مبرمجة في مجلس النواب، قبل أن يتم لاحقا التصويت على القانون وتمريره، الأمر الذي اعتبر تراجعا كبيرا، عن واحد من مبادئ الحزب، المتمثل في الدفاع عن اللغة العربية، دون الرجوع إلى أعضاء الحزب لمعرفة موقفهم.
ويعد موضوع “فرنسة” التعليم، الذي استأثر باهتمام واسع من طرف أعضاء الحزب والرأي العام، من بين المواضيع التي أبرزت أن قيادة العدالة والتنمية، قد دشنت بالفعل حملة من التراجعات الكبيرة، لن تتوقف إلا بانتهاء الولاية الحكومية، الأمر الذي رجح كثيرون أن يساهم بشكل واضح في تقليل حظوظ الحزب خلال الولاية المقبلة.