تبدأ صباحاتها بطيئة هادئة إلا من نغمات موسيقية خافتة. الزبائن آحاد يعدون بالأصابع، يعرفهم النادل بأسمائهم وصفاتهم. في زقاق متفرعة عن أحد أهم شوارع فاس، ومحاطة بأهم المؤسسات الثقافية للمدينة، تجتر “لاكوميدي” رتابة الفراغ ومرارة الهجر، ولعلها تحصي أيام خريفها في انتظار رصاصة رحمة.
أصبح المقهى الثقافي والمسرحي الذي أنشأه الممثل عز العرب الكغاط في العام 1983، محاكاة لمشروع أثار انتباهه بذات الاسم في العاصمة الفرنسية مكانا للذاكرة يحكي سنوات الفورة الثقافية والفنية، وحيوية المشهد المسرحي المحلي، وأجواء الحياة الطلابية أيضا. لسنوات طويلة ظلت المقهى فضاء اللقاءات اليومية التي لا تحتاج إلى مواعيد بين نخبة مثقفي المدينة وأعضاء فرقها المسرحية والمكان المفضل لتحضير الاختبارات الجامعية.
صور لمشاهد من مسرحيات عالمية ومغربية، زاوية زجاجية موشحة بالتذكارات والجوائز التقديرية، بورتريه للفنان والشقيق الراحل محمد الكغاط يطل على الأحياء، لوحات زيتية لفنانين تشكيليين تؤثث الجدران. هواء مختلف يتنفسه الوافد، وعبق نوستالجي يؤجل حتى اليوم قرارا يبدو محتوما بإسدال الستار بعد مسيرة تناهز أربعة عقود. “لقد أردته مشروعا ثقافيا، وعقدت أملا أن يسد تكاليفه على الأقل، لا أن يقضم ما أحصله من عائدات لعملي كممثل” يقول الكغاط. يبدو الرجل مسلما لمآل لا تخطئه العين، خصوصا أن المقاهي التجارية نفسها في المدينة تعيش أياما عصيبة. بالنسبة له، ليست الحركة الاقتصادية والثقافية في المدينة بالزخم الذي يجعل “لاكوميدي” قادرة على العيش طويلا.
راهن الكغاط على أن تكون المقهى التي تقع في طابقين يربطهما سلم دائري على النمط الكلاسيكي، حاضنة لنشاط ثقافي وفني يسد ولو جزئيا الخصاص على مستوى قاعات العروض والسينما. استقطب المكان لقاءات المسرحيين، كاستينغ الأفلام، توقيعات الكتب الجديدة، أمسيات فنية للملحون، لقاءات مفتوحة مع أدباء وفنانين. بل تمت تهيئة منصة صغيرة للعروض، لكن يبدو أن نفس سيزيف يضيق يوما بعد يوم.
على السجل الذهبي للمقهى، وقع أهرام المسرح المغربي عبورهم. حسن المنيعي، الطيب الصديقي، ثريا جبران، الطيب العلج، عبد الواحد عوزري. ظلت لاكوميدي المحطة الضرورية لزوار المدينة من ضيوف ملتقياتها المسرحية. شكلت المقهى سندا لمرافعة من أجل تخليد اسم الراحل محمد الكغاط، الجامعي والفنان، الذي بات يحمله الشارع الفرعي المحاذي لها. انتصار رمزي ثمين لعائلة الكغاط التي تتوارث الفن جيلا بعد جيل. من هنا كان ذهابه وإيابه اليومي، يستقبل فيها طلبته وينقح نصوصه ويتبادل الرأي مع زملائه من حاملي الهم المسرحي في المدينة.
في خريفها الحزين، تواصل كمشة من الأوفياء تمطيط عمر الماضي في حاضرها الآفل. في موعد معلوم، يحل ابراهيم الدمناتي، أحد قيدومي الممارسة المسرحية في فاس، والنقيب السابق لمسرحيي المدينة. يوزع تحاياه على من يعرفهم وينتخب زاوية لتزجية وقت بطعم الزمن المنسحب.
يستعيد الدمناتي وظيفة حيوية اضطلعت بها المقهى كحاضنة لأجيال من الطلبة الذين وجدوا فيها فضاء للتعلم والتبادل وتحضير الاختبارات والدروس في أجواء تفاعلية. حتى الآن يعتبرون أنفسهم خريجين لهذا المكان. يعدد أنشطة ثقافية متنوعة من ندوات وجلسات ماستر كلاس وتوقيعات على هامش المهرجانات المسرحية. يتذكر موسمها الرمضاني من خلال “أيام لاكوميدي الثقافية” التي تنوعت بين سهرات الملحون، ندوات، وعروض أفلام جديدة.
“كان يصعب إيجاد مكان في المقهى أيام الذروة”، يقول النقيب المسرحي. “تقدم الزمن فخلف وراءه كثيرا من الغياب في صفوف المرتادين. في المهرجان الأخير وضعنا صورا لمن غادرونا من الفنانين، وكان عددهم يفوق الثلاثين. المكان يعيش أيضا بعمر من عايشوه وعاشروه”. تلك حكمة النقيب والفنان المخضرم. وها قد ذهبوا.
تجلجل ضحكتها في المكان وتسري عدوى فرح مؤقت. يستقبلها النادل الكهل ببسمة ود. هي الممثلة لبنى مستور التي تحرص عند كل زيارة لفاس على صلة الرحم بذكرى فضاء ثقافي وفني يعيدها إلى منطلق مسارها الفني المبكر. “بدأت أتردد عليها وأنا في 17 من العمر. تشربت منها الرغبة في ممارسة الفن. أصبحت بالنسبة لي فضاء لنسج علاقات فنية ساعدتني في تحقيق حلمي. إنها نوستالجيا تلاحقني، حتى بعد أن غادرت فاس، إذ أحرص بانتظام على استرجاع السنوات التي خلت بنكهة قهوة لاكوميدي”.
مفارقة عظيمة أن المقهى الثقافي والمسرحي يحصي أيامه ويذوي إشعاعه محاطا بمعالم كبرى على غرار المركب الثقافي الحرية، والمكتبة الوسائطية. يرفع عز العرب الكغاط رأسه مقابل الباب الذي تزينه الأقنعة رامزة لأب الفنون، ينفث دخان سيجارة مرة ونفسا محبطا من مآل مبرمج لمحراب للذاكرة الجماعية الفنية والثقافية بالعاصمة العلمية. صفير معصرة البن لا يزال يتردد في لاكوميدي .. حتى إشعار آخر.