*زكرياء التلمساني
تريثنا قليلا من أجل كتابة هذا الرأي؛ هذا المقال. تريثنا قليلا حتى تتوقف الأطراف المتناقضة عن السير مع التيار بتوقف التيار نفسه، حتى تعلن الفوضى نهايتها ونهاية اللعب على وتر المشاعر الدينية.
في السياق ذاته وحول الموضوع نفسه، سال المداد كثيرا ولم يجف بعد، إذ أخرجت جدلية الدين والسياسة إلى الوجود عدة أطروحات فكرية وسجالات إيديولوجية حادة مرتبطة أساسا بحدود العلاقة الناظمة والشاملة بين السلطتين الدينية والسياسية، ومدى تأثير كل منهما على الفضاء العمومي محليا ودوليا.
بدأت القصة أول الأمر، مع دخول محمد الفاتح إلى قسطنطينية وجعل كنيسة آية صوفيا مسجدا للمسلمين ورمزا دينيا للدولة العثمانية. وبعد زمن متقدم من هذا الحدث، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، أرجع كمال أتاتورك انسجاما وفكره العلماني ذات الكنيسة والمسجد إلى متحف مشترك بين ديانتين وتاريخهما في المنطقة.
بداية، يجب الإشارة إلى أن المجتمع التركي يعيش على وقع ازدواجية هوياتية بين تيارين؛ الأول علماني مؤمن بالأفكار الكمالية، مغازل الحداثة والقيم الغربية، والثاني تيار متدين يسعى إلى تغيير الهوية الوطنية وإعادة الإرث العثماني فهو بذلك امتداد لتوجه “نجم الدين أربكان” وعقيدة الوطن الأزرق.
لكن أمام هذا الوضع، نلاحظ أن أردوغان يبقى حبيس استحضاره الدائم لأهمية المكون العلماني في المجتمع التركي. نعم، بحجم ما يعبر عن إرادة سياسية في تغيير كلي للهوية الوطنية من خلال التشجيع على كتابة اللغة التركية بالحرف العربي بدل الحرف اللاتيني، الانتشار الواسع للمدارس الدينية وآخرها تحويل آية صوفيا إلى مسجد، فهو بالمقابل ليست من مصلحته أن يتجاوز الإرث الدستوري والتشريعي الحامي للهوية الكمالية المؤسسة للجمهورية. فكما تتبين هذه الازدواجية في ممارساته الخطابية يكون بذلك مزدوج الخطاب والقناع.
بين المشروع التركي والدور القطري والصمت الأمريكي، يأتي فهم رعاية تركيا واحتضانها للجماعات الإسلامية المتطرفة. إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال تصرف خطابا إسلاميا للمتلقي المسلم، وآخر مدني يصل إلى حد وصفه بالعلماني للمتلقي غير المسلم، فإن الرئيس التركي ينهل من نفس الاستراتيجية الخطابية بشكل عكسي. وينضبط لأسس مجتمعه الدستورية والقانونية ويمثل نفسه في الآن ذاته كزعيم مناصر لقضايا المسلمين في العالم عن طريق استغلال الأحداث وتحميلها مضمونا دينيا في بعده الرمزي.
كل ذلك نراه جليا أيضا في مشكل الرسومات، لما دعا أردوغان إلى مقاطعة المنتوجات الفرنسية. وبالتالي، فإن تركيا وقطر تصدران للعالم منتوجا لا يسوق في سياستهما الداخلية، كونهما دولتين علمانيتين لا يشغل التدين أي وظيفة في صناعة قرارهما السيادي. فيخسر أردوغان نتيجةً لهذا، خطوة بعد خطوة، خطابا بعد خطاب، هدف انضمام بلده للاتحاد الأوروبي
إن ما يحدد طبيعة الموقف الخارجي هي درجة خدمته للسياسة المحلية. وبحكم أن السياسة المحلية يحددها من هو في الحكم، فإن ما يشغل الحاكم أو المنتخب هو التوظيف الانتخابي لهذا الموقف الخارجي. فمع توالي العمليات الإرهابية في فرنسا في الآونة الأخيرة، كان لابد على الرئيس الفرنسي ماكرون أن يقوم بخرجته الإعلامية لعدة اعتبارات، أهمها تلك المرتبطة بمصالحه الانتخابية، والتي قيل عنها أنها معادية للإسلام. هذا الخطاب الذي ترك جدلا واسعا لدى الجمهور كان فرصة سياسية سانحة لأردوغان من أجل إشهار ورقته المعروفة على شكل موقف خارجي ضد ماكرون ورؤساء أوروبا، محرضا المسلمين على مقاطعة المنتوجات الفرنسية. فهو موقف يعزز رمزية صورته كزعيم روحي مناصر لقضايا المسلمين، ذلك ما يخدمه محليا لتدارك التراجع النسبي الذي عرفته شعبيته.
خلاصة لما قيل، إن استعادة خطاب أردوغان لما يعتبره هوية الأتراك وجذورها الثقافية والحضارية، يؤكد على إرادته في تغيير وعيهم الجماعي وإخضاعهم لحلم العثمانية الجديدة. هذا وقد أشار أحمد داود أوغلو في مقالات عدة، لاسيما في كتابه المعنون بالعمق الاستراتيجي على ضرورة إعادة بناء الدور والموقع التركيين المهمين في العالم عموما وإقليميا على وجه الخصوص.
أخيرا ومن خلال كل ما سبق، يمكننا القول بشكل واضح أن تحليلنا النقدي لهذا النسق الخطابي الإخواني لأردوغان، ما هو إلا تحليل لمعطيات وعناصر خطابية متاحة للجميع، أما بالنسبة لتأويلها هذا فقد سبق الاعتراف به من طرف أردوغان نفسه وقيادات من حزب العدالة والتنمية التركي.
*باحث بسلك الدكتوراه في مجال تحليل الخطاب