علي لفتة سعيد –
للأدب عوالمه الخاصة ليس من ناحية إنتاجه وحسب بل من ناحية تلقّيه، سواء من قبل القراء أو النقاد. فبعض الأسماء لها تأثير كبير على المتلقّي وتعد أحد مصادر الجذب، وعدم رؤية السلبيات التي قد يتوفّر عليها النصّ، سواء كان سرديًا أم شعريًا وحتى نقديًا. والسؤال هنا: هل هناك علاقة بين شهرة الأديب ونصه، ومقدار تقبّله من قبل المتلقّي؟ وهل يجد المتلقّي أن ما يكتبه أديبٌ مشهورٌ يختلف عن أديبٍ آخر لم يحظَ بالشهرة ذاتها؟
النقد وأبعاد التلقي
الناقد العراقي عبد علي حسن يقول، تتبدى أهمية السؤال في ضرورة تكوين معايير سليمة لتلقي المنجز الإبداعي بصرف النظر عن الشهرة التي حققها مبدع النص، وبقدر تعلق الأمر في الاسم الإبداعي الذي تمكن من إنجاز نص يشكل تجاوزا موضوعيا وذاتيا، استطاع أن يؤشر تقدما وجدة على المستويين المعرفي والجمالي، فإن هنالك مقدمات ضرورية طالما أنها حققت تفاعلا إيجابيا وضعت المنجز ومبدعه في مكانة التأثير الآني واللاحق. ومن بين تلك المقدمات حصول العمل على موقع متقدم في الجوائز العالمية والمحلية، إذ من الممكن اعتبار فوز العمل بمثابة التنبيه إلى أهميته هو ومبدعه. كذلك يلعب النقد دورا كبيرا في تحقيق سمعة طيبة لهذا المنجز أو ذاك، ويؤشر إلى أهميته على المستوى الجمالي والمعرفي، إذ يعد ذلك المؤشر سمة دخول إلى اهتمام المتلقي وملاحقته ومتابعته لما ينجز ذلك المبدع لاحقا. إلا أن المتلقي المعاصر صار ممتلكا قدرة التمييز والمقارنة، بين منجز (الشهرة) الذي عرف به المبدع عن منجزاته اللاحقة. ولو تفحصنا الأسماء المشهورة مثلا على مستوى السرد الروائي لوجدنا أنها قد عرفت بمنجز واحد دون سواه من المنجزات الأخرى اللاحقة.
التسويق والمناخ السياسي
لكن الناقد المصري معتز محسن له رأي آخر ويعبر منذ البدء عن أسفه الشديد لأن المتلقي في الوطن العربي ينظر للاسم قبل المادة، بغض النظر عن فحوى النص، وقد يكون الأديب المغمور أكثر قيمة من المشهور عبر كلماته الجادة، في تشكيل المضمون، لكن ما يعيق توصيل كلماته للجميع لعبة التسويق والتنجيم، التي تسببت في فرض الحجاب على قامات أدبية ظلمت من طغيان الأبواق الإعلامية، وذلك لحسابات سياسية. ويعطي مثالا بقوله إن لنا في فؤاد حداد خير مثال على ذلك وقت سيطرة صلاح جاهين على الساحة للمد الثوري، الذي استعان به دون غيره، ما جعل حداد لربع قرن يكتب بدون وجود المردود الذي يستحقه، لتأتي الفرصة متأخرة عقب التحول من الثورية إلى الحقبة السياسية الساداتية، التي تمتعت بالاستهلاكية ليستعين به المثقفون، الذين وجدوا في كلماته ما يصلح لمواجهة الانفتاح الاستهلاكي.
غرابة التلقي
الروائي العراقي خضير فليح الزيدي، يعتقد أن هناك قضية ملتبسة بعض الشيء بين اسم الكاتب ونصه. من يتقدم على الآخر؟ من الأكثر جذبا للقارئ؟ الاسم أم العنوان، أم شهرة الكاتب، أم شهرة الكتاب وقوة الترويج له؟ ويجيب أنه من هنا تبدأ الإشكالية، خاصة في البلدان الناطقة بالعربية، أو تلك التي تنشر إبداعاتها في الشرق. ويشير إلى أن هذه الإشكالية تبدأ من القارئ أولا، وتنتهي بدار النشر، يتقدم اسم الكاتب على النص، إذا ما كان كاتبا شهيرا في عالم الكتب المنتجة، إذا ما كان اسمه بارزا بشكل يؤثر على مساحة عنوان كتابه، إذا ما كان الاسم مميزا بالنطق والغرابة. تلك هي عوامل ذات تأثير كبير في عالم النشر. ويعطي مثالا عن نفسه فيقول.. أنا مثلا ككاتب أعاني من نمطية اسمي وعدم حفظه بيسر وسهولة، ولا أستطيع تغييره بعد فوات الأوان. وكذلك أعرف بعض الأصدقاء من الكتاب يعانون من تبعية الاسم في نمطه أو نطقه او تشابهه مع كاتب آخر. أحد الكتاب الأصدقاء له اسم يطلق على المؤنث بشكل عام، مما اهتمت به إحدى الجوائز كونه كاتبة وليس كاتبا، وعندما حضر إلى مكان الحفل حصلت المفارقة. ويضيف، فالكاتب المعروف وصاحب الجمهور الواسع تتعامل معه دور النشر العربية على أنه مصدر مبيعات لكتابه، لذلك تتعامل معه بطريقة تختلف عن الكاتب المبتدئ أو غير المعروف، أو ربما يعاني من انحسار جمهور القراء. إلى هنا نصل إلى نتيجة أن دور النشر غير الاحترافية تراهن على الاسم أكثر من النص وهنا لب المشكلة.
عبادة الأصنام
أما الروائي اليمني الغربي عمران، فيؤكد على وجود علاقة وثيقة، ويقول: كثيرنا يبحث عن منتج أديب ما بعد قراءة عمل جيد له، أو أن يكون هذا الكاتب مشهودا له فلا تأتي الشهرة إلا من شهادات وتثمين، والقارئ على كثرة سيل المنتج يفضل قطف ما يثني عليه الكثيرون. من هنا دور الشهرة دور حاسم ويزيد من تجاذب القطيع نحو هالة الضوء. إلا أن هذا لا يعني أن مجمل من نالوا بعض الشهرة جميع أعمالهم في مستوى واحد، فعلى سبيل المثال يوسف زيدان ورائعته «عزازيل» التي كانت سبب شهرته، لم يتجاوزها بأعماله اللاحقة، أو واسيني الأعرج الذي لم تأت بقية أعماله بمثل مستوى «البيت الأندلسي» وقد تحولت بقية أعماله إلى دوامة من التكرار، وهكذا إبراهيم الكوني أعماله الأخيرة تدور في الدائرة نفسها بثرثرة مملة. فالشهرة في المجمل لا تأتي إلا نتيجة ثناء الآخرين على سين من الكتاب أو جيم أو أن تنال أعماله جوائز، والجائزة إحدى معايير الجودة وإن كانت هناك جوائز تدور حولها الأقاويل، وهذا لا يمنع أن تكون لمجايلي المشهور أعمال أكثر جودة من أعماله، لكن الأضواء لم تسلط عليها، اما بسبب ضيق دائرة النشر فلا تصل لأكبر مساحة من القراء، أو أن يكون هناك استهداف لأعماله، لكن في نهاية الأمر الزمن كفيل بغربلة تلك الأعمال وفرز الغث من السمين، فالتاريخ لا يرحم. ويعتقد عمران أن المشهد الثقافي العربي صنمي، تجد الجميع يسعى إلى التصنيم في جميع المجالات الأدبية أو السياسية بشكل أو آخر، وهذا ما يجعلنا دوما ضمن دوائر التخلف، فلا نميل للتجدد أو المغايرة بل التقليد والتقليد المشوه.
التسويق والموهبة
الشاعر المصري عبدالناصر الجوهري يؤكد على أن هناك علاقة بين شهرة الأديب ونصه، وهي علاقة طردية كلما زادت شهرة المؤلف ازداد الإقبال على إصداراته، ولكن على المتلقي ألا ينظر إلى الشهرة فقط كمعيار للنص المميز، فبعض القرَّاء يربط بين شهرة الأديب وأي شيء يكتبه، فتتحول إلى علاقة انحياز لكل ما يخط قلمه، والمتلقي يجب أن يكون حياديًّا في قراءاته، ويبحث دائما عن مدخل لكل نص، ويحاول قراءة النص أكثر من مرة للتواصل مع لغة وفكر المبدع صاحب المهارات والنجاحات، حتى لو كان هذا الكاتب مقصرًا في حق نفسه. ويشير إلى أن شهرة الأديب نوعان.. شهرة ضجيج تصنعها المؤسسات ودور النشر، والمنتديات والمؤتمرات والإعلام والمنصات الشفاهية، فيصبح الأديب مصنوعا. وأخرى شهرة تصنعها مهارات الأديب ومنجزه وإبداعه الأدبي من حيث الكم والكيف، ولا يلهث فيها خلف الإعلام، ويفرض نفسه على المشهد الأدبي، بفعل النقاد المنصفين وسلاسل النشر، التي تستقطب المبدعين. فالقارئ الكيس الفطن يدرك أن هناك أسماء مغمورة لها إبداعها الراقي في بطن الكتب، ولكن لا أحد يسمع عنها، وإذا كان التميز يتفاوت بين نصوص الأديب الواحد نفسه، فكيف يراهن المتلقي على أديب مشهور بعينه في كل كتاباته، والمتلقي الجاد المتذوق لا يقل أهمية عن المؤلف والناشر والناقد الأدبي كل له دور في الحلقة الأدبية.
دور القارئ
اما الشاعرة اللبنانية فاطمة منصور فتقول.. إن اسم الكاتب كما هو عنوان المادة المكتوبة عنصر جذب للقارئ. فالقراء مثلما يبحثون عن موضوع ما للقراءة، يبحثون عن اسم كاتب معين مشهور، أو فائز بجائزة ما، التي تلعب دورا مهما في إبراز اسم ذلك الكاتب، وخلق تأثير كبير على طبيعة القراءة وموجهاتها، تبعا لأهمية تلك الجائزة، والجهة التي تمنحها، حيث أن تأثير اسم الكاتب المشهور لا ينحصر في الجانب الإشهاري فقط، وإنما يفرض هيمنة كبيرة على القارئ، جاعلا إياه يغض النظر في أكثر الأحيان عما يشوب ذلك النص من هفوات. وتعتقد منصور أن هناك نوعين من القراء، قارئا محترفا متخصصا وهو الذي يكون تأثير اسم الكاتب وهيمنته عليه أقل حدة من النوع الآخر وهو القارئ الاعتيادي البسيط، الذي ربما ينحاز بشدة إلى ناحية الكاتب المشهور، من دون جودة النص أو رصانته او أهميته، حتى إنه يعتبر تلك الهفوات من إيجابيات ذلك النص، أو أنها فتح جديد في الكتابة، وهذه العلاقة الإشكالية بين الطرفين تزحف أحيانا إلى نوع من الإشكاليات الكبيرة، التي تصبح مثار جدل بين النقاد والأكاديميين. فقراءة النص انطلاقا من اسم كاتبه هو في الحقيقة نوع من مصادرة النص، وسجن القراءة وأحيانا الشخصنة تغلب على القارئ مهما كانت مادته فنجد التهليل والتكبير حتى في وهب الألقاب.